ترافق تدفق النازحين بحراً وبراً إلى اوروبا مع حالة من التعاطف والتضامن البديهيَين في أوساط فرنسية معينة ومع امتعاض وريبة هما أيضاً بديهيان في أوساط أخرى. التعاطف بلغ أوجه وامتزج بالتأثر العميق، ما إن شهد الفرنسيون مثلهم مثل غيرهم صور جثة الطفل السوري ايلان ملقاة على رمال أحد الشواطئ التركية. قسوة هذه الصور والحزن الذي تثيره أربكا شاجبي موجات النزوح الكثيفة وأطلقا السنة المتعاطفين من سياسيين وإعلاميين ومشاهير ومواطنين عاديين. البعض ذهب تحت وطأة المشاعر المتأججة إلى إبداء استعداده لإيواء نازحين تحت سقفه، نظراً إلى كون المشكلة الرئيسية التي تواجهها فرنسا تكمن في عدم توفر ما يكفي من مساكن لاستقبال الوافدين الجدد. ما إن انحسرت ظاهرة التضامن العاطفية، أرادت القناة الثانية في التلفزيون الفرنسي الوقوف على صحة وصدق ما قدم قبل نحو شهر من تعهدات من قبل بعض الوجوه المعروفة والمحبوبة في فرنسا. من بين هذه الوجوه، لاعب كرة القدم السابق اريك كانتونا والمغني الشهير شارل ازنافور اللذان كانا أكدا في إطلالات إعلامية عزمهما على استقبال نازحين في منزليهما. وبالسؤال عما آل إليه الأمر، أبلغت القناة الثانية من مقربين من ازنافور أن قراره مؤجل حالياً إلى حين انتهاء الجولة الموسيقية التي يقوم بها على المناطق الفرنسية. كما تبلغت من مقربين من كانتونا أنه تبين أن استقبال نازحين في منزله يواجه صعوبات إدارية من قبل الأجهزة المعنية بشؤونهم وأنه يتطلب بعض الوقت للبت به. وسمعت القناة مواقف مطابقة إلى حد ما لما قاله ازنافور وكانتونا، عندما توجهت بالسؤال إلى شخصيات أخرى كانت أبدت حماسها لضم نازحين إلى أسرها. بوادر الحفاوة والسخاء الأخلاقي لم تكن إذاً أكثر من مجرد مزايدة إعلامية هدفها التمايز عن المستائين الذين يرون في تدفق أمواج البؤس والتشرد على أبواب قارتهم وبلدهم خطراً يهدد نمط معيشتهم. والمؤكد أن موقف المرحبين ينطوي على تجاذب وحيرة بين التضامن التلقائي الذي تثيره أوضاع النازحين والواقع الاجتماعي والاقتصادي القائم في فرنسا. هذا بأي حال ما يبدو واضحاً من خلال الموقف المتلعثم الذي اعتمده الحزب الاشتراكي الحاكم رغم التأكيدات الرسمية بأن فرنسا مستعدة لتقاسم العبء الناجم عن قضية النازحين مع الدول الاوروبية الأخرى وسط الكثير من الارتجال وعدم التناسق في الرؤية. الأرقام المتوافرة تكفي للدلالة على ذلك، حيث أشارت الهيئة العليا لإغاثة اللاجئين في أواخر تشرين الأول(اكتوبر) الماضي إلى أن اكثر من 500 الف نازح اجتازوا البحر الأبيض المتوسط باتجاه اوروبا منذ مطلع العام الحالي وهم بغالبيتهم من السوريين (54 في المئة) فيما الباقون من العراقيين والأفغان والليبيين. أما الأرقام المتوافرة لدى جهاز «اوفيرا» الفرنسي المعني بشؤون النازحين وطالبي اللجوء السياسي، فتشير إلى أن فرنسا استقبلت 65 الف نازح من بينهم 500 سوري عام 2014 وكذلك خلال العام الحالي، في حين أن الرئيس فرانسوا هولاند تعهد على المستوى الاوروبي باستقبال 24 الف نازح على مدى ثلاث سنوات وصل منهم حتى الآن بضع مئات فقط. الهوة إذاً واضحة وكبيرة بين حجم المشكلة وبين ما هو معتمد من إجراءات للتعامل معها وهو ما تبرره السلطات الفرنسية بضرورة الاستعداد لاستقبال النازحين على أراضيها بطريقة لائقة ومدروسة. الحزب الاشتراكي ملزم، كونه في الحكم، بالتحلي بهذا القدر من العقلانية لأنه في الطليعة على صعيد مواجهة الضائقة الاقتصادية والاجتماعية والبطالة المترتبة عنها وتجاوزت نسبة 10 في المئة من القوى العاملة. وهو ملزم أيضاً بمراعاة استحقاقات انتخابية، يبدو بحكم المؤكد أن نتيجتها ستكون مذلة بالنسبة إليه وفي مقدمها الانتخابات الاقليمية في كانون الأول(ديسمبر) المقبل في ظل الامتعاض المتزايد لدى المواطنين من ارتفاع الضرائب وتدني القدرة الشرائية ونوعية الحياة اليومية عموماً. هذه الأوضاع تحد من قدرة الاشتراكيين على إبداء السخاء مع قضية النازحين خصوصاً وان فرنسا عاجزة منذ سنوات عن حل مشكلة مشرديها الذين يفترشون الأرصفة في مدنها، وعن حل المشكلات المزمنة المتراكمة في ضواحيها لأسباب عدة، في مقدمها عدم وفرة التمويل، علماً أن ديوان المحاسبة الفرنسي أفاد مؤخراً بأن كلفة اللجوء إلى فرنسا بلغت 700 مليون يورو عام 2013. ولو أنهم كانوا في المعارضة وليس في الحكم، لما كانوا ترددوا بالمزايدة وإغداق الوعود على طريقة كانتونا وازنافور وأيضاً على طريقة المجموعات التي تقف على يسارهم وتجاهر بأن فرنسا كانت وينبغي أن تبقى أرض لجوء. الانقسام والتباين حيال قضية النازحين وسواها من قضايا، سيد الموقف في الوسط اليميني الذي يشهد تنافساً حاداً بين أقطابه على ترشيح الحزب لانتخابات الرئاسة عام 2017. جوهر المواقف اليمينية المختلفة سواء الممالئة لمواقف الجبهة الوطنية (اليمين المتطرف)، أو تلك القائلة إن قضية النازحين إنسانية بحتة وينبغي التعامل معها من هذه الزاوية، مع تدارك وطأتها وآثارها على المستوى الاجتماعي، تستهدف بالدرجة الأولى النيل من أسلوب الاشتراكيين في التعامل مع القضية. من السهل على اليمين مواكبة ما أشارت إليه الاستطلاعات ومفاده أن ما يتراوح بين 60 و65 في المئة من الفرنسيين يعتبرون أن عدد الأجانب مرتفع جداً في بلدهم والالتصاق في الوقت نفسه بالتساؤلات التي ترددت في سياق الجدل العام حول قضية النزوح. التساؤلات تراوحت بين القول نعم لاستقبال النازحين، لكن الظاهرة خارجة عن نطاق أي سيطرة ونعم لمساعدة الآخرين، لكن ليس على حساب الفرنسيين فيما بدا أن الأوساط الشعبية هي الأكثر رفضاً للنازحين، إذ يعتبرون أنفسهم ضحايا وعاجزين من هذا المنطلق من التعاطف مع ضحايا آخرين. منحى المزاج الشعبي هذا ساعد في صياغة مواقف يمينية متفاوتة بين الخوف المستتر من الآخر بالنسبة إلى لقمة العيش وما يمكن أن يترتب على ثقافته وتقاليده الاجتماعية المختلفة وبين التحذير المباشر من أن وجود النازحين سيكون على حساب الفرنسيين والتلويح بمخاوف على صلة بالإسلام والإرهاب. بعض رؤساء البلديات اليمينية عبر عن ذلك علناً ولم يتردد في القول أنه على استعداد لاستقبال نازحين في منطقته، مشترطاً أن يكونوا من المسيحيين. الموقف الأكثر صراحة وانسجاماً مع الذات، كان كالعادة موقف الجبهة الوطنية التي أكدت زعيمتها أن تدفق النازحين إلى اوروبا اجتياح وأن استقبالهم في فرنسا ينطوي على تهديد للأمن والهوية والقيم الفرنسية. كل هذا يلقي الضوء مجدداً على الالتباس الذي طالما حكم تعامل فرنسا مع الهجرة والنزوح منذ 1931، حيث بلغ عدد المهاجرين إليها 3 ملايين شخص، ما جعلها أرض الهجرة الأولى في العالم وتتالت بعدها دورياً فورات الانتعاش الاقتصادي التي كانت تفتح خلالها أبواب البلاد أمام المهاجرين، تعقبها فترات انكماش تدفعها للتضييق عليهم. في منتصف القرن ال19 وفي ظل الثورة الصناعية كانت فرنسا في حاجة إلى عمالة أجنبية ولكن في أواخر القرن نفسه، حل التأزم الاقتصادي الذي تحول في ظله العمال الأجانب إلى عبء. المهاجرون في تلك الفترة كانوا ايطاليين وبلجيكيين فرضت عليهم رقابة مشددة وألزموا بتسجيل أسمائهم على لوائح في البلديات ليحق لهم العمل في فرنسا. عقب الحرب العالمية الثانية، احتاجت فرنسا مجدداً لعمالة أجنبية فتوافد إليها اسبان وبرتغاليون وأتراك وشمال أفريقيين من تونس والمغرب والجزائر وجاءت لاحقاً الصدمة النفطية وحولت المهاجرين إلى محط غضب بعض الفئات الفرنسية التي ضاقت ذرعاً بداية بالعمال المهاجرين ثم بالمسلمين. صحيح أن فرنسا اليوم في حال انكماش وتأزم وهي لم تفتح الأبواب أمام النازحين، لكن هذا لا يعفيها من المسؤولية عنهم لأن ما حل ببلدانهم وأجبرهم على النزوح نجم أساساً عن التحرك والمطالبة بقيم ومبادئ طالما دعت اوروبا وتحديداً فرنسا إلى تعميمها. وما لم تستوعبه حتى الآن لا فرنسا ولا العالم هو أن النزوح ليس ظاهرة ظرفية وانما ظاهرة تعكس وفق أحد الباحثين التحولات التي طرأت على الكرة الأرضية، وأنه خلال السنوات ال20 المقبلة سيكون هناك 250 مليون شخص تقريباً مضطرين لمغادرة الأماكن التي يعيشون فيها حالياً لأسباب سياسية أو اقتصادية أو بيئية أو غذائية.