هناك طريقة لا تخطئ في فكّ أحاجي الانتخابات المحليّة الفرنسيّة قبل ظهور نتائجها، فالذي يقول: «إنّها مجرّد موقف من مسائل المناطق، لا أكثر من ذلك» يكون الخاسر. والذي يقول: «إنّها رسالة من الأمّة والشعب» يكون الرابح. في الانتخابات الأخيرة، قال رئيس الجمهوريّة نيكولا ساركوزي القول الأوّل، أمّا قائدة الحزب الاشتراكيّ مارتين أوبري فقالت القول الثاني. وأهميّة النكسة التي أصيب بها ساركوزي، مع إعلان النتائج شبه النهائيّة للدورة الأولى، أنّها تشكّل آخر امتحان للإرادة الشعبيّة قبل الانتخابات الرئاسيّة في 2012. والأسباب لا تعود عصيّة على التقدير حين تكون نسبة البطالة 10 في المئة وشعبيّة ساركوزي في أدنى مستوياتها، بل الشعور بالقرف حيال الطبقة السياسيّة موضع إجماع بعيداً. هكذا وجدنا الإقبال على التصويت ينخفض الى نسبة متدنّية جدّاً لا تتعدّى ال 48 في المئة. وأوضاع كهذه تجمع بين الأزمة الاقتصاديّة ونقص الثقة في التقليد السياسيّ، فضلاً عن شيوع الأفكار المحافظة في أزمنة انتقاليّة، أوضاع نموذجيّة دائماً للفاشيّين. هكذا رأينا حزب «الجبهة الوطنيّة» يرفع تمثيله في المجالس المحليّة إلى 12 في المئة. أمّا قائده جان ماري لوبن فلم يتردّد، بعد التصويت، في الظهور على الشاشة وهو يرفع ملصقاً يحظّره القانون كُتب عليه: «لا للأسلمة»، داعياً مشاهديه الى تأييد حزبه في الدورة الثانية. والحال أنّ نقاش «الهويّة الوطنيّة» كما أراده ساركوزي، والنفخ في نار الخطر على فرنسا وفي «تهديد» الإسلام، هذا كلّه لم يكن بريئاً من جعل لوبن وجبهته يحرزان النتائج المقلقة التي أحرزاها. مع ذلك تُسجّل نتيجة إيجابيّة هي التقدّم الذي حقّقه الحزب الاشتراكيّ وبات بموجبه، وبالتحالف مع الخضر، يسيطر على أكثر من نصف المقاعد. لكنّ النتيجة الإيجابيّة تلك لا تخلو من التباس. ذاك أنّ الاشتراكيّين لم يعبروا حتّى الآن صحراء التضعضع والتنافر وتراجع الفعاليّة ممّا اتّسمت به «حقبة ما بعد ميتران» المستمرّة. صحيح أنّ مارتين أوبري، محافظة مدينة ليل ووزيرة العمالة السابقة، تمكّنت من إزاحة المرشّحة السابقة للرئاسة سيغولين رويال. لكنّ أوبري، السياسيّة المحترمة من دون أن تكون وجهاً كاريزميّاً، لا تزال أسيرة الائتلافات الهشّة التي أوصلتها إلى موقعها الجديد على رأس حزب يتخبّط في نزاعاته السياسيّة والأيديولوجيّة وفي منافسات شخصيّة بين قياديّيه «الفيَلة» كما يُلقّبون. فالحزب الاشتراكيّ اليوم هو حيث يجلس جنباً إلى جنب اشتراكيّون ديموقراطيّون ويسار معتقديّ قديم، وليبراليّون وكارهون لليبراليّة، ودعاة تأميم ودعاة خصخصة، وهناك أنصار رئيس الحكومة السابق لوران فابيوس، وأنصار رئيس الحكومة السابق أيضاً ليونيل جوسبان، وأنصار ستراوس كاهن، وزير المال السابق والرئيس الحاليّ لصندوق النقد الدوليّ، وجماعة محافظ باريس برتران ديلانو، ويسار الحزب المتحلّق حول بنوا هامون. وهؤلاء لا يجمع بينهم تقريباً إلا رغبة التخلّص من رويال التي، على رغم افتقارها إلى عديد من المواصفات الجدّيّة، تحتفظ بمواظبة وإصرار لا يلينان. وهي في رفضها نتائج الانتخابات الحزبيّة، وفي تشكيكها فيها، قد تستنزف ولاية أوبري في متاهات الحياة الحزبيّة. وأسوأ ما في هذه اللوحة أنّ الاشتراكيّين قد يعجزون عن التحوّل إلى السدّ المطلوب لوقف لوبن والتداعيات المقلقة للأزمة الاقتصاديّة المصحوبة بأزمة تطاول الوعي السياسيّ والأيديولوجيّ في آن معاً.