يبدو المشهد العراقي في أعقاب الانتخابات البرلمانية، مقفلاً أمام التوقعات. النتائج بدأت في الظهور، وكما كان منتظراً، لن يتمكن أحد من تشكيل الحكومة منفرداً، لا بل إن قائمتين من القوائم المتقدمة عاجزتان وحدهما عن تسمية الرئيس المقبل للحكومة. لا بد من ثلاث على الأقل. وإذا قرر المرء إجراء مغامرة لتوقع شكل الحكومة المقبلة، فلن ينجو من مأزق مهما كانت خطواته مدروسة. فالكتل النيابية التي بدأت ملامحها تتبلور بفعل ما تواتر من معلومات حول النتائج يبدو أنها أربع رئيسة، هي دولة القانون (نوري المالكي)، والعراقية (اياد علاوي) والائتلاف الشيعي (الجعفري) والتحالف الكردي. ومن بين هذه الكتل الأربع ثمة اثنتان متماسكتان هما كتلتا المالكي والأكراد، فيما تبدو اللائحة العراقية بقيادة علاوي هشة وعرضة لاحتمالات التجزئة والمحاصصة تبعاً لمفاوضات توزيع المناصب والمواقع في أعقاب ظهور النتائج. هذه أيضاً حال الائتلاف الشيعي المتشكل من قوى قليلة الانسجام ولا تجمعها سوى مصالح انتخابية من الصعب استمرارها بعد الانتخابات. قد يبدو هذا الكلام استباقياً، لكن فيه مقداراً من الصحة لا تخطئه عين. ويبدو انه واقع ستحفل بتفاصيله عملية تشكيل الحكومة، إذ يبدو حتى الآن ان لا أحد غير رئيس الوزراء الحالي نوري المالكي قادر على تشكيل الحكومة، وعلى رغم ذلك تشارف صعوبة مهمته هذه حدود الاستحالة بفعل الخريطة الناجمة عن الانتخابات. فالرجل لن يتمكن من تشكيل حكومة متكاملة من دون إنجاز مهمة محددة تتمثل إما بإشراك علاوي فيها، وهو أمر يبدو صعباً، وإما بشق كتلة علاوي واستدراج وجوه سنية منها، وهذه مهمة لا تبدو سهلة بدورها. لن يتمكن المالكي من تشكيل حكومة من دون القائمة العراقية أو جزء منها، على رغم ان تحالفه مع الأكراد ومع الائتلاف الشيعي كاف لإنجاز التشكيل، لكنه بذلك يكون قد استبعد التمثيل السني الذي حازته كتلة علاوي. ولهذا يبدو أن الانتخابات العراقية انعقدت هذه المرة على تغيرين جوهريين يتمثلان في تكريس صعود المالكي أولاً، ثم في عودة الاعتبار الى الموقع العربي السني في العراق ثانياً، وإن ليس على النحو الذي كان قبل سقوط صدام حسين. فإذا كان صحيحاً ان القائمة العراقية (علاوي) ستحل ثانية في ترتيب القوائم، وهو أمر مرجح، فمعنى ذلك ان ما تمثله هذه القائمة من ثقل سني ومشاركة شيعية ليست رمزية عاد ليحجز مكاناً له في التركيبة، وهذا رأب لصدع كان أصاب التجربة العراقية الجديدة منذ انطلاقتها. ف «العراقية» تمثل الى حد بعيد من بدوا عند انطلاقة التجربة أنهم المقصيون عنها. وهؤلاء ليسوا السنّة العرب تماماً، ولكنهم شيء من هذا القبيل، وليسوا البعثيين ولكنْ أطيافهم، كما انهم ليسوا شيعة النظام السابق إنما أبناؤه وضحاياه في آن. ستجرى مفاوضات ومقايضات كثيرة تسبق تشكيل الحكومة، وسيستغرق ذلك وقتاً طويلاً على الأرجح وسنضجر من التفاصيل التي ستحف بمخاض الولادة، وقد يصيبنا قدر من الغثيان بسبب ذلك، لكن هذا لن يلغي حقيقة نادرة في واقعنا العربي. فالصعوبة هنا هي صورة عن صعوبة الوضع العراقي وتعقيداته، وإذا كانت السياسة صورة عن الواقع فإن مقداراً من الصحة والعافية يلوح وإن كان بعيداً. فالحكومات السهلة في معظم بلداننا ليست على الإطلاق صورة حقيقية عن الواقع الاجتماعي والسياسي لدولنا. ثم ان العراق الذي يُعاد تشكيله وفقاً لمعطيات واقعه هو عراق لم يبلغ الفتوة بعد، وعمر تجربته لم يتجاوز الست سنوات. وأن يتوقع واحدنا عراقاً مكتملاً وطبيعياً في هذه الفترة الوجيزة فهذه سذاجة ما بعدها سذاجة. المخاض العسير لتشكيل الحكومة سيكشف هشاشة التجربة، وسيكشف أيضاً فداحة الطموحات الإقليمية في العراق، وسيظهر ميولاً للاستئثار بالسلطة والثروة والمقدرات. لكن أن تجد كل هذه الوقائع مكاناً ليتم تصريفها بالسياسة وبحسابات المصالح وبعيداً من أساليب الانقلابات والعنف، وأن يتم تظهيرها عبر مجلس نواب منتخب ومؤسسات حكم طبيعية الى حد كبير، فإن العراق بذلك يكون قد قطع شوطاً سبق فيه معظم جيرانه. وهذا هو تماماً الأمر الذي تستهدفه فيه محاولات زعزعة الأمن التي ثبت للجميع دور دول مجاورة فيها. قومت الانتخابات الأخيرة خللاً كان يُهدد التجربة عبر المشاركة السنية الكثيفة فيها. ليس هذا تفصيلاً عابراً، فالسنّة العرب كانوا في السنوات القليلة الفائتة مركز طموحات الساعين الى تفجير التجربة. صعود المالكي جاء أيضاً في سياق مشابه، إذ ان الرجل كشف عدم إجماع شيعي يبدو إيجابياً حيال الكثير من القضايا في العراق وفي محيطه. العراق اليوم أمام محصلتين تبدوان متساويتين. حظوظه في النهوض تساوي حظوظه في الانهيار، وهي حصيلة لم تكن تُمثل حاله قبل سنوات قليلة. كما أنها حصيلة سبق فيها دولاً مجاورة نائمة على حروب أهلية باردة تُكللها حكومات «سهلة» وشقية وعديمة التمثيل والشرعية. وإذا كان السير نحو وضع أمني يتيح حياة طبيعية للعراقيين مهمة تسبق كل مهمات الحكومة العتيدة، فإن أمام الرئيس المُكلف مهمات تسبق ذلك أثناء تشكيله الحكومة الصعبة. ستكون تشكيلته ناقصة من دون تمثيل «العراقية» فيها، وهو نقص سيعيد الاعتبار الى طموحات الاستثمار الإقليمي في البيئة العربية السنية. السياسة في العراق في أعقاب الانتخابات الأخيرة هي تماماً حرفة إجادة ربط هذا المقدار الهائل من المصالح بخيط دقيق. نوري المالكي مجدداً يبدو انه المرشح الأبرز لإدارة هذه العملية. في الفترة التي سبقت الانتخابات سقط الرجل أمام امتحان «الاجتثاث» العقيم، وبدا انه يُقدم الاعتبار الطائفي على اعتبارات عراقية سبق ان أوحى بأنه يُقدمها على غيرها. واختلط وقع السقطة مع روائح علاقة مع طهران لم يسع الى تبديدها. في بلد مثل العراق لا تكفي سقطة واحدة لحكم نهائي على تجربة صاعدة. أمام المالكي فرصة أخرى لتقويم اعوجاج الاجتثاث، تتمثل بالتمسك بتمثيل السنّة العرب عبر «العراقية»، سواء بالتوافق مع علاوي أو من دونه.