إذاً هذه انتخابات أخرى أجريت في العراق في ظل الاحتلال، وكانت انتخابات مماثلة أجريت في الأراضي الفلسطينية المحتلة (مرتين)، وكذا في أفغانستان (المحتلة أيضاً). مع أن نقاش الانتخابات يفتح على تساؤلات عديدة، ضمنها، مثلاً، مسألة السيادة، وبالتالي مسألة الحرية، والغاية من الانتخابات، مروراً بشروط نزاهتها، وفاعليتها، فإن هذه التساؤلات لاتلغي، ولا تقلل، أهمية هكذا عملية، إن في شأن تفعيل قدرة المجتمع المعني على إدارة أوضاعه، أو بالنسبة إلى سعيه لتحقيق السيادة، أو نقل سيادته على ذاته، من حيز الوجود بالقوة إلى حيز الوجود بالفعل. أما بخصوص ممانعة العملية الانتخابية، لمجرد أنها تجرى في ظل الاحتلال، أي في ظل قيوده وتدخلاته وتشويهاته، فيمكن التذكير بأن التجربة، أو النموذج الذي قدمته البلدان المعنية، بعد حصولها على الاستقلال، أي بعد تخلّصها من الاستعمار، لم تأت بعكس ذلك، بل إنها كانت، في الأغلب، على الضد تماماً من العملية الانتخابية؛ باعتبارها من مكونات العملية الديموقراطية. أيضاً، لا بد من التذكير هنا (لمن ينسى) بأن سابقة تنظيم انتخابات، لإقامة حكومات محلية، بتمثيلات برلمانية، ليست ظاهرة استثنائية، إذ جرى مثل هذا الأمر في عديد من البلدان التي كانت خاضعة للاستعمار، وضمنها، مثلاً، الهند (أكبر تجربة ديموقراطية) ومصر وسورية ولبنان والعراق ذاته. بديهي أنه لا يمكن التعويل على الانتخابات وحدها لإرساء الديموقراطية، في النظم السياسية، فالعملية الديموقراطية، كما عملية بناء الدولة (في شكل أوسع)، في حاجة إلى شروط أخرى (إعلاء شأن الدستور، وتكريس دولة المؤسسات والقانون والمواطن، واحترام الفصل بين السلطات، والقبول بالتعددية، وحرية الأحزاب، والخضوع لمبدأ تداول السلطة). ومعنى ذلك أن هذه الاشتراطات لا تنطبق فقط على الدول التي تخضع للاحتلال، وإنما هي تشمل، أيضاً، الدول ذات السيادة؛ خصوصاً نمط البلدان النامية التي تفتقر للحريات الأساسية ولمفهوم دولة المواطنين. وفي التجربة المتعينة شهدنا عديداً من هكذا بلدان تعمّدت تحويل العملية الانتخابية إلى مجرد ديكور لتجميل استمرار السلطة فيها، أو لتخريج بقاء هذه السلطة على كرسي الحكم (إلى ماشاء الله)، بتسويغات قانونية، وهي في هذا وذاك تقصّدت المبالغة بطقوس العملية الانتخابية لتغطية غياب الديموقراطية فيها. ويستنتج من ذلك أنه لاينبغي التعلل بالاحتلال لرفض الديموقراطية، أو أحد تمثلاتها (الانتخابات مثلاً)، تماماً مثلما لا يمكن التبرير بالاحتلال لرفض منجزات الحداثة (باعتبارها معطى كونياً). أما بديل ذلك فيتمثل بتحويل صدمة الاحتلال، من مجرد صدمة سلبية، إلى صدمة ايجابية؛ على غرار الوضع الذي أحدثته غزوة نابليون بونابرت إلى مصر (أواخر القرن الثامن عشر)، أو على غرار الصدمة الحاصلة في ألمانياواليابان (بحسب حازم صاغية). هكذا فالصدمة الأولى هي التي مكنت محمد علي باشا من تحدي الباب العالي في اسطنبول، ومنافسة القوى الدولية الصاعدة على سورية، والصدمة الثانية هي التي مكنت اليابانوألمانيا من تجاوز الهزيمة والتحول إلى قطبين عالميين، في العلوم والتكنولوجيا والمال ومستوى المعيشة. ومن مفارقات تلك التجربة يمكن ملاحظة أن العالم العربي (مثلاً) كان تقبّل ما نقله الاستعمار من نظم إدارية، وقانونية، وتعليمية، ومن مخططات تتعلق بتنظيم المدن، وشق الطرق، وكهربة البلاد، وغير ذلك من مستتبعات تكنولوجية، وعادات استهلاكية، في حين أنه صدّ، أو لم يتقبّل، أو لم يتمثل إلى الدرجة المناسبة، طرائق التفكير التي أدت إليها، وضمنها فكرة الحداثة (العقلانية والدولة والمواطنة)، وهي فكرة تقع حقوق الإنسان والديموقراطية والتمثيل والتداول والانتخابات في مركزها. المعضلة أن العالم العربي لايزال مع هذه المفارقات حتى اليوم (!)، ما يؤخر من قدرته على مواكبة التقدم والتطور على الصعيد العالمي، كما من قدرته على مواجهة التحديات التي تواجهه، وضمنها تحدي الاحتلال ذاته! هكذا لاتبدو المشكلة في الانتخابات، بحد ذاتها، وإنما في قدرة المجتمعات المعنية (التي تعاني من الاحتلال) على وعي ذاتها كمجتمع، وإنتاج وعي مطابق للعالم، بما يمكنها من تجاوز انتماءاتها الأولية (الطائفية والمذهبية والإثنية والعشائرية). ولاشك في أن هكذا تجاوزاً هو من مهمة المجتمعات المعنية، بنخبها وقواها المحركة، وليس من مهمات سلطة الاحتلال (الاستعمارية). بمعنى أخر ربما يقوم الاستعمار بالدفع نحو تنظيم انتخابات، وإقامة نوى حكم محلي، لتسهيل احتلاله، أو سيطرته، ناقلاً بذلك تجربته في إدارة المجتمع والدولة، إلى نطاق البلد الذي يحتله. السؤال هنا هل يستوجب ذلك حقاً رفض هذه التجربة أم حض الجهود لاستخدامها كرافعة لتطوير الانتماءات المجتمعية القَبلية من المستوى الأهلي إلى المستوى الوطني، باعتبار ذلك جزءاً من التمهيد لتحقيق السيادة، وتجاوز الاحتلال ذاته؟ ثم أيهما أجدى لفعل مقاومة الاستعمار (بالمعنى الشامل للكلمة) البيئات الأهلية القبلية أم المجتمعات الواعية لذاتها ومصالحها ومستقبلها المشترك؟ مثلاً، لقد أثبتت التجربة الفلسطينية أهمية الانتخابات لتعيين التوازنات السياسية في المجتمع، ونقل النظام السياسي الفلسطيني من مرحلة المحاصصة («الكوتا») إلى مرحلة التمثيل، ومن مرحلة الاحتكار والتفرد إلى مرحلة المشاركة والتعددية. لكن هذه التجربة المهيضة جرى تخريبها، أو تشويهها، ليس بسبب الاحتلال والمداخلات الخارجية فقط، وإنما بسبب عدم قابلية الفلسطينيين لتمثل التعددية، إلى الدرجة المناسبة. فالفلسطينيون هم المسؤولون عن نظامهم الانتخابي المختل، والمختلط، والمتضمن التعامل وفق نموذجي الانتخابات: النسبية والمناطقية (في آن معاً)، حيث الأول يخدم تطوير الانتماءات السياسية، ويكفل التعددية، في حين أن الثاني يخدم تكريس الانتماءات الأولية، وينبني على الأكثرية والإقصاء. والفلسطينيون هم المسؤولون، أيضاً، عن إضعاف المشاركة السياسية المجتمعية، بواقع تمسك فتح باحتكارها السلطة، وميل حماس لحسم الأمور بوسائل القوة المسلحة، في واقع فلسطيني تطغى فيه عوامل الهيمنة السلطوية الإقصائية والقسرية (المال والسلاح والنفوذ الإقليمي) على عوامل الإقناع والتفاعل والتواصل. لا نقول هنا بأن وضع العراق أحسن حالاً، لكن الانتخابات السابقة والحالية، بينت كم هو العراق حيوي ومتعدد وغني، وبينت توق العراقيين لاكتشاف ذاتهم، بعد طول غياب (أو محو)، وهذه التجربة مازالت في بداياتها، فقط.