تعيش تركيا على صفيح ساخن منذ تراجع التيار المحافظ في الانتخابات التشريعية التي جرت في 7 حزيران (يونيو) الفائت، إلا أن ثمة تململاً سريعاً ومتلاحقاً بعدما كشف استطلاع للرأي أجرته مؤسسة «سونار» تراجع التأييد للحزب الحاكم ليصل إلى نحو 40 في المئة، ما يعني زوال فرصته في استعادة الحكم المنفرد. وليست الانتخابات وحدها سبب تصاعد حال الاحتقان والجمود السياسي الذي أصاب تركيا طوال الشهور التي خلت، فقد دخل المناخ مرحلة الشحن مع تصاعد العنف بين الدولة من جهة وحزب العمال الكردستاني من جهة أخرى، فضلاً عن تحول تركيا من ممر إلى مستقر آمن للجهاديين، خصوصاً عناصر «داعش» قبل أن يبدأ الجيش التركي تعقبه عناصرها وضرب جيوبها في سورية في تموز (يوليو) الماضي. وتشهد تركيا تصاعداً ملحوظاً لجماعات العنف والعنف المضاد التي تتنوع توجهاتها وتتباين أهدافها، ما بين استهداف قوات الجيش وعناصر الأمن في المناطق الكردية واستهداف المقار والشخصيات الحزبية. ولا يقتصر مسلسل العنف على منطقة بذاتها، وإنما تمتد أذرعه في مناطق مختلفة من البلاد، لا سيما أنقرة والمناطق المتاخمة للحدود السورية. ولم تكن تفجيرات أنقرة التي سقط فيها نحو 103 قتلى الأولى من نوعها، فقد سبقها العديد من التفجيرات التي كشفت عن تطور نوعي وكمي للعنف والعنف المضاد. وتتشابه تفجيرات أنقرة مع تفجير سوروج في ولاية شانلي أورفا الحدودية مع سورية، والذي وقع في 20 تموز الماضي وأدى إلى مقتل 33 شخصاً، ودفع بأنقرة إلى بدء حرب ضد حزب العمال الكردستاني وتنظيم الدولة الإسلامية «داعش». ووصل مشهد العنف ذروته في 6 أيلول (سبتمبر) الماضي حين انفجر الوضع الأمني على مصراعيه في عملية «داغليجة» قرب الحدود العراقية، بعد أن فجَّر «الكردستاني» عربتين مدرعتين للجيش التركي ما أسفر عن مقتل 16 جندياً وضابطاً، قضلاً عن تفجير حافلة شرطة في 7 أيلول في منطقة إيغدير، أسفر عن مقتل 14 من عناصر الأمن. والأرجح أن هذه الأجواء خلقت خوفاً حقيقياً، وأصابت تركيا بصدمة كبيرة، وتضاعف الخوف مع تواتر أعمال العنف التي نفذتها جبهة تحرير الشعب الثوري اليسارية المتطرفة «DHKP-C»، واستهدافها البعثات الديبلوماسية، حيث أعلنت مسؤوليتها عن حادث الهجوم على القنصلية الأميركية في حي إيستينيه في ضواحي اسطنبول في آب (أغسطس) الماضي. وفرضت الجبهة اليسارية نفسها على ساحة الصراع مع الحكومة التركية عبر عمليات نوعية سريعة ومفاجئة، من بينها اغتيال النائب العام التركي سليم كيراز في 31 آذار (مارس) الماضي، ليعاد بذلك دور اليسار إلى واجهة الأحداث بعد هدنة استمرت بضع سنين. ثمة سياقات سياسية تقف وراء تنامي ظاهرة العنف والعنف المضاد، منها فشل عملية التسوية السياسية للقضية الكردية التي بدأت في العام 2012، وتدور رحاها منذ العام 1984 وأسفرت عن ما يقرب من 40 ألف قتيل غالبيتهم من الأكراد، إلى جانب وجود آلاف الأكراد والسجناء السياسيين الآخرين في السجون التركية. وعلى رغم الإصلاحات التي هدفت إلى تعزيز حقوق الأقليات، ومعالجة الاستقطاب المجتمعي طوال الأعوام التي خلت، إلا أن القراءة الدقيقة تكشف أن النخب التركية الحاكمة، السياسية والعسكرية، على رغم بعض اختلافاتها البينية الظاهرة، ما زالت متمركزة حول النزعة القومية، وترفض أي اعتراف أو إعادة قراءة للتاريخ التأسيسي للكيان التركي الراهن، وبالذات الاعتراف بحقوق الأكراد وهويتهم القومية، ولذلك اتبعت المؤسسة التركية، بعيداً من طبيعة النظام الحاكم، سياسة العصا دوماً في مواجهة التمرد الكردي. ويرتبط السياق الثاني بعودة التيار اليساري إلى المشهد، خصوصاً «جبهة التحرر الشعبي الثوري» التي تعد إحدى أبرز الجماعات الماركسية - اللينينية التي تتهمها السلطات بتنفيذ أعمال إرهابية والعمل ضد قواعد الدولة وقوانينها الملزمة. وتأسس حزب «جبهة التحرر الشعبي الثوري» في العام 1978، تحت اسم «ديف سول» أو «اليسار الثوري»، على يد دورسون كاراتاس، قبل أن تعاد تسميته في العام 1994 بالشكل الحالي. ويتبنى حزب الجبهة خطاباً معادياً للولايات المتحدة والغرب والمؤسسة التركية الحاكمة. ويرفع حزب الجبهة الثورية شعارات مناهضة لواشنطن ولحلف شمال الأطلسي، حيث تعتبر أن تركيا تقع تحت سيطرة «الإمبريالية الغربية»، لاسيما بعد أن فتحت مجالها الجوي أمام طائرات التحالف الدولي لمكافحة «داعش» من جهة ووقوفها في صفوف أعداء النظام السوري من جهة أخرى. وتعتبر الجبهة الثورية أن إنقاذ تركيا من توجهات العدالة والتنمية وتدمير السيطرة الاستعمارية لا يكونان إلا بالعنف المسلح. وحزب الجبهة الثورية على رغم عمله من وراء ستار، إلا أن لديه حاضنة شعبية تظهر في التظاهرات المناوئة للحكومة وفي الأحياء الفقيرة، وكشف عن ذلك حضور أبناء الحزب في أحداث «ميدان تقسيم» 2013 واحتجاجات عيد العمال في أيار (مايو) الماضي، وقبل ذلك في العام 2008 حين خرج الآلاف لتشييع دورسون قره طاش، القائد التاريخي للحزب، عندما أُعيدت جثته من هولندا إلى بلاده. والمتابع للحراك الشيوعي في تركيا يكتشف أن انتشاره وتركزه يظلان أعلى في المحافظات الغربية لا في الشرق حيث الوجود الكردي، كما أن جزءاً كبيراً من هيكله التنظيمي وقواعده على الأرض من المتعلمين والعاملين في جهاز الدولة، الأمر الذي يُصعِّب على الأمن مهمته. وراء ذلك؛ تقف سياسات أردوغان الساعي إلى تفصيل المشهد على مقاس طموحاته السياسية عاملاً مهماً في تغذية الاحتقان السياسي، وكان بارزاً، هنا، إصراره على استئصال الداعية المعتدل وحليفه السابق فتح الله غولن باعتباره متهماً بزعامة منظمة إرهابية، ومطلوباً للعدالة التركية بتهمة التآمر لقلب نظام الحكم، ناهيك بتوعد أردوغان النخب الكردية بعد أن تجرأت على خوض التنافس النيابي الماضي، فضلاً عن إصراره على الدعاية لحزب العدالة والتنمية، وهو الأمر الذي يخالف الدستور الذي ينص على وجوب أن يكون الرئيس محايداً ولا علاقة له بأي حزب، وألا يشارك في أي حملة انتخابية. ووصل الأمر بأردوغان إلى دعم حملة «التخوين» ضد مرشح حزب الشعوب الديموقراطية صلاح ديمرطاش. أما السياق الرابع فيعود إلى ما أثير في وقت سابق عن علاقة خفية بين تنظيم الدولة الإسلامية «داعش» وحكومة العدالة والتنمية، وهو ما كشف عنه رفض تركيا في البداية المشاركة في التحالف الدولي لمناهضة داعش، وربطها التعاون بإسقاط نظام الأسد وبناء مناطق عازلة على حدودها السورية. وبينما تعرضت حكومة العدالة والتنمية لانتقادات من معارضيها في الداخل واتهامها بأنها العقل المدبر للكثير من أعمال العنف لتشويه الصورة النمطية للقوى السياسية العلمانية، كانت أيضاً موضع نقد الخارج، وكان بارزاً، اتهام نائبة رئيس البرلمان الألماني كلاوديا روت تركيا بالإصرار على تسهيل «مهمات داعش القذرة». المهم أن تواتر أعمال العنف في تركيا لم يكن مفاجأة في ظل تصاعد الاحتقان السياسي والمجتمعي إلا أن ما حدث في الأيام الفائتة يبدو مختلفاً عما حدث من قبل في تركيا، إذ كشفت العمليات النوعية لقوى العنف والحركات السياسية عن قدرتها على التأثير في شكل معلوم في مجريات الداخل التركي، وثمة دلالات، أولها الآثار الفادحة لأعمال العنف التي خلَّفتها عمليات الجبهة الثورية وداعش، إذ تعمل هذه الجهات في غالبية الأحيان على نطاق صغير، وهي أظهرت في شكل منتظم قدراتها في تنفيذ العمليات بما في ذلك في المدن الكبيرة. وترتبط الدلالة الثانية بنجاحات «الكردستاني» في قض مضاجع الدولة، فعلى رغم العمليات العسكرية الموسعة ضد معاقل الحزب ومناطق نفوذه في العراق فضلاً عن ترسانة القوانين الاستثنائية، إلا أن نجاحات الدولة ما زالت عاجزة عن تقليم أظافر الحزب وقوته. في المقابل نجح بعض الحركات التي تنتهج العنف في تركيا مثل الجبهة الثورية في النفاذ إلى مؤسسات الدولة وهياكلها الحساسة على رغم الإجراءات الأمنية، وبدا ذلك في استهداف مقر رئيس الوزراء أحمد داود أوغلو، واغتيال النائب العام التركي سليم كيراز، وكشفت هذه الحوادث عن قصور معلوماتي للأجهزة الأمنية من جهة، ومن جهة أخرى عن فجوة لوجستية في شأن التعامل مع تكتيكات العنف. وكان للعمليات المسلحة ضد الدولة التركية ومصالحها بأيدي قوى سياسية يصر النظام على تهميشها أو تخوينها وأخرى وفَّر لها ملاذاً آمناً لتحقيق مكاسب سياسية موقتة، تداعياتها القلقة على وضعية «العدالة والتنمية» في الشارع التركي، وبدا ذلك في تراجع التفويض الانتخابي الممنوح للحزب عما كان عليه في الاستحقاقات الانتخابية السابقة. وظهر التراجع واضحاً في الانتخابات البلدية والرئاسية في 31 آذار و10 آب 2014، فضلاً عن الانتخابات البرلمانية الأخيرة التي حصد فيها الحزب 40.86 في المئة مقابل صعود قوى المعارضة. على صعيد ذي شأن كان لحوادث العنف التي شهدتها البلاد تداعياتها السلبية على الصورة الذهنية لحزب العدالة والتنمية في الوعي الجمعي التركي، وحدود قدراته في ضبط إيقاع أمن البلاد، خصوصاً بعد تصاعد الأحداث الدموية على الحدود السورية وفي الداخل التركي. * كاتب مصري