نادراً ما تثير التظاهرات الكبرى البانورامية الملل في المتاحف. وهي التي تمثل الإثارة الثقافية (الاقتصادية والسياحية) المتجددة. غالباً ما تكون مشاريع تربوية محايدة طموحة تسعى بشجاعة لتصحيح تاريخ الفن، وإعادة كتابته بمعزل عن عنصرية العصبية القومية. ناهيك عن بذل الإمكانات المادية الباهظة والوقت. هذا هو شأن المعرض - المفاجأة البانورامي لفنان فرنسي بديع هو غوستاف دوري، من مواليد منطقة الألزاس عام 1832 ومتوفى في باريس عام 1883 بعد استقراره (ومحترفه) لفترة في لندن. هي الفترة التي حاول فيها أن يهرب من شؤم النقد الفني والأدبي بعد خطوة سنوات بداياته، وهكذا وضعه النقد الفرنسي في هامش الحركة الرومانسية والمعتمدة على ثلاثة حملوا الاسم ذاته: غوستاف كوربيه وغوستاف مورو وفناننا الثالث... تلك الفترة جمعته مع دولاكروا ثم ادوار مانيه، وارتبط اسمه باقترانه بالممثلة سارة برنار. عالج الموضوعات اليومية التي قادت إلى الفن المعاصر (في نهاية القرن التاسع عشر)، مثل موضوع الموسيقيين، والمتسولين، ناهيك عن الموضوعات الخرافية مثل «بينوكيو» بالأنف الطويل، وروائع كتّاب عصره مرتبطاً بدار نشر معروفة هي هاشيت، معاصراً شوبان وهوغو ورودان ودومييه وبرليوز ولوتريك. افتتح المعرض في شباط (فبراير) مستمراً حتى منتصف أيار (مايو) لينتقل بعدها إلى متحف البوزار في أوتاوا في كندا. وكان متحف أورسي استعاد أعماله من مصادر متباعدة. فقد بذل تحضيره سنوات من التوثيق والاستعارة، لذلك فهو يمثل فرصة موسوعية للإطلاع على تعدديته الأدائية والتقنوية، بخاصة منحوتاته البرونزية الهزلية العملاقة، ممارساً لشتى أنواع التعبير الشكلي من تصوير ونحت وحفر وطباعة ورسوم توضيحية. وذلك تحت عنوان مثير: «سلطة الشطح الخيالي» والتي تناسب تطرف موضوعاته وهذيان تصاويره، يعترف المعرض اليوم بأن عوالمه الصورية وطريقته في أخراج تكوينات الأشخاص والظل والنور غزت السينما الهوليودية فكانت مادة دراسة استلهامية لعدد من المخرجين. كان متعدد المواهب مما قاد إلى تعدديته الأدائية، وهذه الصفة سيف بحدين لأن نقاد عصره وبعد الاعتراف بموهبته الخارقة وتمجيده، انتقدوا تعدديته الأسلوبية (يقصدون المواضيع) وهكذا اضطر أن يستنجد بمعجبيه في إنكلترا من أصحاب مجموعات وصالات عرض ودور نشر (من أجل محفوراته). في سن الخامسة عشرة وقّع عقداً حصرياً لبيع رسومه مع أحد أكبر مسوقي الفن في عصره قريب عائلة الملك لويس فيليب وصاحب شركة. أدهشته كثافة إنتاجه. يعتبر هو نفسه الرسم رياضة يومية، في عمر الثلاثين كان في محترفه مئة ألف رسمة. هو ما يؤكد تفوق إمكاناته الجسدية، كذلك محبته للعبث والسخرية جذبته إلى المهرجين والسيرك يقلدهم وهو يسير بطريقة استعراضية على الحبل المعلق في الفراغ من دون حماية، أو يمشي على يديه على حافة الطابق الخامس، مثل مهرج محترف يتقمص شخصيات لوحاته ويمثلها في الواقع قبل رسمها. واعتبره آخرون يداعب الموت بلعبته الخطرة في الحياة. لذا تبدو لوحاته وموضوعاته متطرفة عجائبية إلى حد «الخرافة» ارتبطت هذه الصفة العجائبية بشخصه وفنه، وكان عازفاً ماهراً على آلة الكمان. ابتدأ نشاطه ورسمه بالكاريكاتور متأثراً بمعاصره دومييه. ثم تحول إلى التصّوير مقتصراً في الغرافيك على الرسوم التوضيحية «لأدب الخرافة» مثل طباعته (دوماً في دار نشر هاشيت) لمشاهد الجحيم لدانتي، ثم حفره ونحته لصورة دون كيشوت وعالمه الساخر العبثي، وكان أنجز رسوم الأعمال الكاملة للكاتب رابليه. أعيد طبعها مع أعمال دانتي في عدد من العواصم الأوروبية والعالمية: ما بين شيكاغو وبطرسبورغ ولندن وطوكيو وأمستردام وميلانو. ثم أنجز بعد عام بسبب هذا النجاح (1862) مجموعة قصص بينوكيو السالف الذكر بأنفه المديد. كثيراً ما يصّور مشاهد كوميدية تجري في الأماكن العامة كالشوارع. لا شك في أن وجوده المنقذ لنشاطه في لندن ترك بصمات واضحة على التصّوير الإنكليزي ما قبل الانطباعي (أي ما قبل تورنير)، بخاصة في تقنية الألوان المائية. يعانق المعرض درراً فنية أصيلة مدهشة فاجأت الزوار بخاصة محتويات صالة النحت في الطابق السفلي، على مثال منحوتة برونزية بعنوان «قفز الخرفان»، فيبدو أحد فرسان «دون كيشوت» وهو يقفز على ظهر شخصية فكاهية لسيدة، لعلها تعكس أشد حالات التهكّم والسخرية وخفة الدم والعبثية لديه. ولا شك في أن عائلة الرومانسية الفرنسية يكملها نموذجه الفريد.