تأتي القمة العربية العادية المزمع عقدها في مدينة سرت الليبية يومي 27 و28 آذار (مارس) الجاري، في واحدة من أشد لحظات النظام الإقليمي العربي حساسية، حيث تشتد وطأة الاضطرابات والتصدعات التي تنخر في بنيانه، بدءاً من تعثر مشروع التسوية بين إسرائيل وأطراف عربية في ظل تنامي تعنت حكومة نتانياهو وإصرارها على مواصلة نشاطاتها الاستيطانية بصور وآليات مختلفة، بالتزامن مع مضيها قدماً في تهويد القدس وقضم المزيد من الأراضي العربية وفرض الوصاية على المقدسات المسيحية والإسلامية، مروراً بتفاقم أجواء التدهور الأمني وعدم الاستقرار السياسي في العراق، إلى الحد الذي يجعل مصيره مفتوحاً على الاحتمالات كافة، على رغم الانتخابات، بما في ذلك احتمال اندلاع حرب طائفية قد تنتهي بتقسيمه إلى ثلاث دويلات على أسس طائفية أو عرقية. وليس الوضع في السودان بالأفضل مع استمرار تعقد الأوضاع الإثنية والسياسية وازدياد حدة الأزمة السياسية والإنسانية في إقليم دارفور وهو ما يعزز فرص خيار انفصال الجنوب على حساب خيار الوحدة. ولا تزال الحرب الأهلية التي اندلعت في الصومال قبل سنوات عدة مشتعلة بل وتتجه نحو المزيد من التصعيد مع تنامي العجز المزمن عن توفير بيئة محلية وإقليمية ودولية تساعد على إطفائها أو احتوائها. ولم يكن انحسار أزمة الحوثيين في اليمن ليباعد بين ذلك البلد العربي وبين احتمالات تحوله إلى دولة فاشلة. ومما يزيد من تعقيد الأمور أمام قمة سرت المرتقبة أن النظام الإقليمي العربي لم يكن أسيراً لتلك الحزمة من الأزمات والتوترات العربية وغيرها فحسب، وإنما أبت الأوضاع الدولية والتطورات الإقليمية إلا أن تبقيه محاصراً بأخرى لا تقل خطورة وتأثيراً على حاضره ومستقبله، لعل أبرزها استمرار التصعيد في الأزمة النووية الإيرانية. غير أن التحديات المثبطة والأجواء المحبطة التي تلف القمة العربية المقبلة إلى الحد الذي يقلص من سقف التطلعات العربية في شأنها ويجعل من التشاؤم حيالها نتيجة منطقية ربما لا تقبل المراء، قد حملت في طياتها إمكانات يمكن للعرب جميعاً الاستفادة منها إذا ما أحسن القائمون على أمر تلك القمة والمشاركون فيها توظيفها، حيث تبقى أمامها فرصة تاريخية لتحقيق إنجاز ملموس في ما يخص تصفية الأجواء العربية وإنهاء الخلافات التي تعكر صفو العلاقات العربية - العربية وتكبل العمل العربي المشترك، كما تظل هناك أمام ليبيا، التي تستضيف للمرة الأولى في تاريخها قمة عربية، فرصة أخرى نادرة لإعطاء دفعة مهمة لدورها الإقليمي، خصوصاً إذا ما نجحت في ترميم التصدعات التي ضربت أطنابها في علاقاتها مع الجامعة العربية، ومع عدد لا بأس به من الدول العربية خلال السنوات القليلة المنقضية، عساها تتمكن من تأليف القلوب والمصالح العربية بما يساعد على بلورة مواقف عربية موحدة تعين على التعاطي الناجع والإيجابي مع جملة القضايا العالقة والملفات المطروحة على جدول أعمال قمة سرت. ولعلنا لا نبالغ إذا ما زعمنا بأنه إذا كانت التحديات التي سبقت الإشارة إليها، تشكل في مجملها عقبة أمام تفعيل العمل العربي المشترك وتهديداً يتربص بالنظام الإقليمي العربي بمؤسساته وتفاعلاته كافة، فإن استمرار الخلافات العربية - العربية وتشعبها واتساع دائرتها يوماً بعد آخر خلال الآونة الأخيرة أضحى سرطاناً يتفاقم خطره بمرور الوقت وعلى نحو متسارع حتى يوشك أن يأتي على بصيص الأمل المتبقي في إعادة إنعاش لكل ما هو عربي. حيث تبدأ المأساة العربية من خلافات مزمنة بين سورية والعراق، والمغرب والجزائر، إلى أخرى متجددة بين مصر وسورية وقطر، ثم إلى تلك المستحدثة بين مصر وحركة «حماس» الفلسطينية، وهذه المتفجرة والمشتعلة بين السلطة الوطنية الفلسطينية وحركة «حماس»، وهي الخلافات التي يسدد العرب فواتيرها، في ما يحقق غيرهم أرباحاً طائلة من ورائها من دون أدنى كلفة أو عناء. فلقد بلغ التوتر بين القاهرة وحركة «حماس»، التي تدير قطاع غزة منذ تفجر الانشقاق الفلسطيني الداخلي في صيف عام 2008، مبلغاً مقلقاً بعد أن رفضت الأخيرة التوقيع على الوثيقة المصرية لاتفاق المصالحة الفلسطينية في نهايات العام الماضي، مستندة إلى اعتبارات عدة أهمها اعتقادها أن المسؤولين في جهاز الاستخبارات المصري، الذين يديرون محادثات تلك المصالحة، أدخلوا تعديلات في غير موضع من نص وصيغة الوثيقة بعد أن تم الاتفاق على ما فيها من جانب الأطراف كافة. وفي حين تعرضت حركة «حماس» لهجوم إعلامي سواء في الإعلام المصري أو إعلام السلطة الفلسطينية، وصل إلى حد تحميلها مسؤولية تعطيل عملية المصالحة الفلسطينية والانصياع لضغوط أطراف غير عربية لا ترغب في إعادة بناء اللحمة الوطنية بين أبناء الشعب الفلسطيني، لم تسلم القاهرة هي الأخرى من انتقادات عربية شعبية ورسمية طوت بين ثناياها اتهامات بالتراجع عن دعم الفلسطينيين تزلفاً لواشنطن ومهادنة لتل أبيب. وغير بعيد من ذلك، تطل برأسها حال الانقسام الحاد الجاثم على الساحة الفلسطينية منذ سنوات ولا تلوح بادرة في الأفق تشير إلى إمكان تجاوزه في المستقبل المنظور، لا سيما بعد أن امتد ليطاول الموقف الفلسطيني من المشاركة في قمة سرت، حيث لا يزال الجدل حتى هذه اللحظة حامياً في شأن شكل الوفد الفلسطيني المشارك في تلك القمة. وهو الجدل الذي احتدم على أثر غياب الاتفاق الفلسطيني والعربي حول تشكيلة الوفد الفلسطيني المشارك في القمة بعد إعلان حركة «حماس» رغبتها إيفاد ممثلين عنها للمشاركة فيها سواء في شكل مستقل أو من خلال الانضمام إلى الوفد الفلسطيني الرسمي. فمن جانبه، أعلن الرئيس الفلسطيني محمود عباس أنه لن يحضر هذه القمة إذا ما حضرها القيادي في حركة «حماس» خالد مشعل، الذي طلب رسمياً من ليبيا السماح له بحضور القمة العربية ممثلاً عن الحركة، ثم عاد وأبلغ الليبيين بأن «حماس» ترحب بانضمامها إلى الوفد الفلسطيني الرسمي المشارك في القمة. وفي حين تطالب جبهة عربية جديدة مكونة من ليبيا والجزائر وقطر، بضرورة السماح لخالد مشعل بالمشاركة في القمة كي تكون فرصة لتصفية الأجواء بينه وبين أبو مازن، يرهن الأخير قبوله هذا المطلب بضرورة إعلان «حماس» التزامها التوقيع على ورقة المصالحة الفلسطينية في القاهرة من دون أية شروط أو مقترحات بتعديلات جديدة. ولم تقف التداعيات عند هذا الحد وإنما امتدت لتسمم العلاقات العربية - العربية ولتهدد فرص نجاح القمة العربية المقبلة، حيث أعلنت مصادر فلسطينية أن الرئيس عباس يتعرض الى ضغوط شديدة من داخل حركة «فتح» واللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، لمقاطعة قمة سرت احتجاجاً على امتناع الزعيم الليبي معمر القذافي عن استقباله والالتقاء به خلال زيارته ليبيا في 21 شباط (فبراير) الماضي وهو في طريقه إلى أوروبا. وبدوره، يعلق عباس عودته إلى ليبيا والمشاركة في القمة بمهاتفة الرئيس القذافي إياه والاعتذار له عما حصل خلال تلك الزيارة، حيث لم يستقبله القذافي على رغم أن زيارة أبو مازن إلى ليبيا لم تكن على جدول أعماله بل تمت بناء على إلحاح من طرابلس. ومن جانبها، أرجعت المصادر الفلسطينية موقف القذافي حيال أبو مازن إلى غضب الأول من الأخير جراء رفضه مطلباً ليبياً رسمياً بنقل جهود إتمام وتوقيع وثيقة المصالحة الفلسطينية من مصر إلى ليبيا وتأكيده أن المصالحة لن تتحقق إلا في القاهرة، التي رعتها وتابعتها طيلة شهور، وفي غضون اللحظة التي توقع فيها «حماس» على الورقة المصرية التي وقعت عليها حركة «فتح» في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، فضلاً عن إبداء السلطة الفلسطينية قلقها من أن تفضي تلبيتها رغبة القذافي إلى غضب القاهرة ومقاطعة الرئيس مبارك قمة سرت. بيد أن نجاح الزعيم الليبي في قيادة دفة قمة سرت العربية باتجاه العبور بالعلاقات العربية - العربية إلى بر الأمان، يتطلب وقفة جادة منه تتيح له إنهاء حال الارتباك التي خيمت على علاقة بلاده مع الجامعة العربية والتي تجلت في تفاقم الديون الليبية للجامعة حتى بلغت 25 مليون دولار عن السنوات الأربع الماضية بعد أن امتنع القذافي عن تسديد التزامات بلاده المالية حيال الجامعة بسبب تحفظه على سياساتها إزاء الاتحاد الأوروبي، علاوة على عدم حصول ليبيا على مواقع مهمة داخل الهيكل الإداري للجامعة، كما تخوله تذويب الخلافات التي تلقي بظلالها على علاقات ليبيا مع أطراف عربية أخرى كالسعودية ولبنان، على خلفية حادثة اختفاء الإمام موسى الصدر في ليبيا عام 1978 حيث يصر شيعة لبنان على أن النظام الليبي ضالع في إخفائه ورفيقيه وربما قتلهم لأسباب سياسية، الأمر الذي دفع القضاء اللبناني إلى إصدار مذكرة توقيف بحق الزعيم الليبي، كما شجع رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري على مطالبة الحكومة اللبنانية بمقاطعة قمة سرت العربية. ومن شأن نجاح قمة سرت في تحقيق إنجاز تاريخي يعبر بالعلاقات العربية - العربية من نفق الشقاق والتشرذم المظلم، الذي هوت إليه، أن يهيئ المناخ لتحقيق إنجازات على صعد أخرى وفي ملفات شتى كعملية التسوية المتيبسة بين إسرائيل وأطراف عربية عدة، والتي تحتاج إلى وقفة عربية جادة وإيجابية للحيلولة دون انحرافها عن المسار الصحيح. وفي وسع تصفية الأجواء العربية أن تمهد السبيل أيضاً للاستفادة من المشاريع والمبادرات التي طرحتها أطراف عربية عدة من أجل تفعيل دور جامعة الدول العربية والنهوض بالعمل العربي المشترك، والتي من أبرزها: المشروع السعودي، إلى جانب الورقتين القطرية والسودانية، علاوة على المبادرات الليبية والمصرية واليمنية، خصوصاً بعد أن أعلن وزير الخارجية اليمني أبو بكر القربي أخيراً أن مجلس الجامعة العربية اتخذ قراراً خلال اجتماعه في القاهرة مطلع الشهر الجاري على مستوى وزراء الخارجية بعرض المبادرة اليمنية على القمة العربية المقبلة، وأن المجلس أعطى مهلة حتى يوم الرابع عشر من شهر آذار (مارس) الجاري للدول الأعضاء لإطلاع الأمانة العامة للجامعة العربية على أية ملاحظات أو مقترحات على تلك المبادرة، التي سبق وأن أعلنها الرئيس علي عبدالله صالح قبل انعقاد القمة العربية الماضية في الدوحة ثم تبناها البرلمان العربي بعد ذلك. * كاتب مصري