هل سأل أحد منا نفسه هذه الأسئلة: ما سبب ضعف الطلاب في المواد العلمية كالرياضيات، والفيزياء، والكيمياء، والعلوم الطبيعية؟ وما سبب عدم نيل العرب الجوائز العالمية العلمية في مجال الطب والفيزياء والهندسة، كجائزة نوبل، وجائزة الملك فيصل وغيرهما؟ وما سبب ضعف الأبحاث العلمية ونتائجها في الجامعات العربية؟ وما سبب حصر إنتاج المصانع في الأغذية وبعض الصناعات البدائية؟ وما الذي أوصل العرب إلى هذا المستوى من التخلف عن ركب التقدم العلمي التقني؟ ربما يجيب البعض بأن تأثير الدين الإسلامي هو السبب الرئيس لهذا التخلف، متناسين ما وصلت إليه بعض الدول الإسلامية من التقدم العلمي والصناعة المتقدمة بمختلف أشكالها، كالباكستان، على رغم ضعف مواردها، وإيران، وماليزيا. بل إن عبد الكلام زين العابدين، رئيس جمهورية الهند سابقاً - وهو مسلم - هو أكبر عالم في مجال تقنية الصواريخ، قد يجيب آخرون بأن دور الاستعمار الطويل في الوطن العربي كان من أهم أسباب التخلف، متناسين أن أعظم دولتين في هذا القرن ألمانياواليابان خاضتا أعتى الحروب، وكانتا ترزحان تحت نير الاستعمار لسنوات طوال. إن مشكلة كل شعب هي في جوهرها مشكلة حضارته، ولا يمكن لأي شعب أن يفهم أو يحل مشكلته ما لم يرتفع بفكره إلى متطلباته العملية والعلمية، وما لم يتعمق في فهم العوامل التي تبني الحضارات أو تهدمها. إن التقدم العلمي لا يقوم بالدروس والخطب الدينية، ولا بمحاضرات الأندية الأدبية، وجوائز الشعر وأفضل شاعر، لقد مضى زمن الزوايا والتكايا، وحفلات طرد الجن من الأجسام، ودق الزار، وإشعال البخور، وكتابة طلاسم وتعليقها بالرقبة على أنها حجاب حافظ. إن تدريس ثماني مواد دينية لطلاب المرحلة الثانوية العامة «الفرع العلمي»، وتخريج الآلاف من الشباب في الجامعات في اختصاصات دينية ونظرية، لن ينتفع بهم مجتمعهم، وجلّ عملهم سيكون في المكاتب أو بمهنة التدريس، ووظائف لن تسهم في مواكبة التقدم العلمي الحاصل الآن، فالتقدم العلمي لا يقوم بحفظ النصوص الدينية والأدبية ومن ثم تفريغها في أوراق الاختبارات، لتُنسى بعد مرور يوم واحد فقط. إن اختلاس عقول الأطفال في المدارس تعدّ جريمة بحقهم، ففي مادة التوحيد، درس «باب ما جاء في الرقي والتمائم» حديث الرسول صلى الله عليه وسلم «يا رويفع لعل الحياة ستطول بك، فأخبر الناس: أن من عقد لحيته، أو تقلد وتراً، أو استنجى برجيع دابة أو عظم فإن محمداً بريء منه»، ماذا يفيد الطالبات في سن الطفولة شرح مثل هذا الحديث؟ وهل يعقل أن الطالبة بالرغم من كل هذه المدنية أن تستنجي برجيع الدابة أو العظم؟ وماذا يفيدهن أن العظم هو طعام الجن، والروث هو علف لدوابهم؟ وما الفائدة المرجوة لفتاة لم تبلغ العاشرة من العمر إفهامها مقدار زكاة الإبل وزكاة الركاز، بينما في اليابان طلاب المرحلة الابتدائية يستطيعون تركيب دوائر كهربائية معقدة، وتجميع أجهزة كالتلفاز والراديو. من المعروف أن مصطلح الجاهلية أُطلق على العرب فقط قبل الإسلام، ولم يشفع لهم أدبهم الفذ، وشعرهم الرائع؛ لأن الجهل في حقيقته وثنية، لأنه يغرس أفكاراً وينصب أصناماً من التمر التي تؤكل عند الجوع، ولكن معنى المصطلح ذاته أطلق في الغرب، فسموه عصر الظلام، وإن الجهل الذي يلبسه أصحابه ثوب العلم يعدّ من أخطر أنواع الجهل على المجتمع؛ لأن الجهل بيّن ظاهر يسهل علاجه، أما الأول فهو متخفٍ في غرور من أطلقوا على أنفسهم صفة متعلمين. لقد ظل العالم الإسلامي خارج التاريخ دهراً طويلاً، إذ لم يكن له هدف واضح، وكأنه مريض استسلم لمرضه، وفقد شعوره بالألم، حتى أصبح كأنه جزء من كيانه، وفجأة قبل نصف قرن، سمع من يذكره بمرضه، فلم يلبث أن خرج من سباته العميق ولديه شعور بالألم، وربما هذه الصحوة الخافتة كانت بدء العالم العربي في التفكير في كيفية النهوض، وخلال نصف القرن الماضي لا يزال العالم العربي يترنح تحت تأثير كبوته، فتارة يعود إلى سريره ليغفو، ثم يحاول النهوض من سريره ليقع مرة أخرى، لقد تبين أن العرب منذ نصف قرن لا يعالجون المرض، وإنما يعالجون الأعراض، وهم في الحقيقة يجهلون مرضهم، ولم يحاولوا حتى تشخيصه. لقد أحسن خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز، حين أدرك أن المستقبل هو للشباب المتعلم، فبدأ بالاهتمام بالناحية التعليمية المتطورة، وبفتح الجامعات المتقدمة في منهاجها التعليمي المرتكز على الناحية العلمية فقط، بل إن تعيينه للأمير فيصل على رأس وزارة التربية، دليل إدراكه أن هذه الوزارة ليست أقل من غيرها شأناً من الوزارات. إن للتاريخ دورة وتسلسلاً، فهو تارة يسجل للأمة مآثر عظيمة، وتارة أخرى يلقي عليها دثارها، ليسلمها إلى نومها العميق، وعلينا أن ننتظر مكاننا من دورة التاريخ، وأن ندرك أوضاعنا، وما يعترينا من عوامل الانحطاط، وما ينطوي عليه أسباب ومقومات التقدم العلمي، وإن العيش على أوهام عظمة التاريخ العربي والإسلامي في السابق يعدّ ضرباً من أحلام اليقظة، فالتاريخ لا يعيد نفسه بنفسه، بل يجب علينا أن نبدأ في وضع الحلول والمناهج العلمية التي تنسجم مع ما تقضيه هذه المرحلة للحاق بركب العالم المتقدم، وإذا كان لا بد من قراءة التاريخ فلنقرأ تاريخ الخوارزمي، والبيروني، والفزاري، وابن سينا، والرازي، وابن الهيثم، وثابت بن قرة والمئات غيرهم، كي نصحو مما نحن فيه. من المستغرب أن بعضاً لديهم حساسية شديدة من كلمة «إصلاح»، بل إنهم ينظرون إلى كل طرح جديد يُشتم منه رائحة النهوض بهذه الأمة، نظرة شك وريبة، فيطلقون التهم جزافاً على من أتى بهذا الطرح، إن التقدم العلمي في الغرب أسهم في إغنائه خليط من البشر، منهم المتدين الذي ينهي عمله في المختبر، ثم يذهب إلى الكنيسة ليؤدي طقوس دينه، والبوذي، والهندوسي، والمسلم، والملحد. إن الإسلام لم يعرف اضطهاداً للعلم والعلماء في تاريخه، بل كان الدافع إلى العلم والتعلم والتعليم والتدبر، لذا كان معظم العلماء المسلمين علماء بدينهم أيضاً. قال تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ). ولنتمعن في عدد الآيات التي تحض على العلم والتعلّم وتبين مكانة العلم: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ). وقال تعالى: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ). وقد أكّد رسول الله على أن شخصية المسلم لا تكتمل دون العلم بقوله: «من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهَّل الله له طريقاً إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضى بما يصنع، وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض، حتى الحيتان في الماء. وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر». قد يقول بعض: نحن تقدمنا على الكثير من الأمم، فنحن نركب السيارات الفارهة والطائرات الحديثة ونستخدم أحدث الأجهزة، ونغوص في أعماق «الإنترنت»، أقول لهؤلاء: فقد أصبحتم بذلك أفضل المستهلكين. * باحث في الشؤون الإسلامية.