في السنوات الأربع الماضية، كان هناك تطابق بين الأجندتين الروسية والإيرانية في سورية: منع تغيير النظام السوري، منع انتصار فصائل المعارضة، عدم السماح بانتقال سورية من محور إقليمي - دولي الى آخر، الحيلولة دون بروز معارضة عقلانية موحّدة، تعميق الخلافات بين التكتلات السياسية والفصائل المسلّحة، تسهيل تدفّق الإرهابيين والمقاتلين الأجانب، غضّ الطرف عن ازدهار الإرهاب، إخراج الإرهابيين من معتقلاتهم الى الساحة السورية، أن يفيضوا على النشطاء السلميين، تسهيل عبور الجهاديين من الشيشان والدول السوفياتية السابقة، أن تكون أي خسارة لقوات النظام لمصلحة «داعش» والمتطرفين. تقاسمت روسياوإيران الأدوار للوصول الى هذا الهدف. استعجلتا نقل الملف من الجامعة العربية الى الأممالمتحدة. تكفّلت موسكو بالوسائل السياسية والديبلوماسية، واستخدمت حق النقض (فيتو) ضد أي قرار يمكن أن يستخدم غطاء لتدخل عسكري. حالت دون انتقال الاعتراف ب «الائتلاف الوطني السوري» المعارض من الجمعية العامة الى مجلس الأمن. بقيت حكومة دمشق ممثلاً لسورية في مؤسسات الأممالمتحدة. وشكلت موسكو بوابة للتواصل بين النظام والدول الكبرى عبر منصة مجموعة «بريكس» (روسيا، الصين، الهند، جنوب أفريقيا، البرازيل). كما شكّلت الصناعة الحربية الروسية مصدراً رئيسياً للسلاح والذخيرة للجيش النظامي. أما إيران، فتكفلت بتقديم «المستشارين» و «الخبراء» العسكريين، الموارد البشرية، واستيراد مقاتلين شيعة من لبنانوالعراقوإيران وأفغانستان وباكستان وغيرها من الدول. الهدف المعلن: «الدفاع عن مقام السيدة زينب» جنوبدمشق وفي كل مكان من سورية. أيضاً، قدمت ذخيرة وسلاحاً، وأشرفت على تشكيل ميليشيات سورية. نظمت «اللجان الشعبية» وحوّلتها الى «قوات الدفاع الوطني». استنسخت تجربة «باسيج» الإيراني وشكلت حلفاً بين حكومة العراق والنظام و «حزب الله». كما فتحت إيران مصارفها أمام المساعدات المالية، وقدمت خطوط ائتمان مالية تصل الى حدود خمسة بلايين دولار أميركي، وأرسلت المشتقات النفطية والمواد الغذائية. كلما ارتخت موسكو شدّت طهران عصب موقفها. أكثر من مرة قام مسؤولون إيرانيون بزيارات الى روسيا في مراحل مفصلية في 2011 و2012، خلال ترؤس ديمتري ميدفيدف الكرملين. وتعاون البلدان مراراً، لكن المثال الأوضح كان في خريف 2013 بعد استخدام السلاح الكيماوي. تعاونت موسكووطهران على توفير المخرج من المأزق، والضغط على النظام السوري للتخلّي عن السلاح الكيماوي لتجنّب ضربات أميركية هدّده بها الرئيس باراك أوباما. البيت الأبيض أعلن أكثر من مرة، أن الضربات ستكون «محدودة وضيقة» من حيث الزمن والأهداف، لكنّ حليفَي النظام كانا يدركان معنى انزلاق الإدارة الأميركية في سورية. كما تعاون هذان الحليفان أكثر في إنقاذ النظام من نفسه وتعنّته وقت لا ينفع التعنّت. مسؤولون إيرانيون كانوا يصرون دائماً على إقناع المسؤولين السوريين بضرورة «شراء الوقت». ومسؤولون روس أقنعوا دمشق أكثر من مرة ب «المرونة». وجرى التعاطي مع جميع المبادرات السياسية والديبلوماسية وقرارات مجلس الأمن من هذا المنطلق: شراء الوقت، مبادرات المراقبين العرب والأجانب و «بيان جنيف» في 2012، ومفاوضات جنيف في بداية 2014، وقرارات مجلس الأمن المتعلقة ب «وقف القصف العشوائي» وإيصال المساعدات الإنسانية وفتح «ممرات عبر الحدود»، وتشكيل لجان للتحقيق في استخدام غاز الكلور ثم إصدار قرار دولي بتحديد المسؤولية، وتعجيل قرارات مجلس الأمن المتعلقة ب «خنق» الإرهابيين ووضع «جبهة النصرة» الى جانب «داعش» على القوائم الدولية ل «الإرهاب». هذا في الماضي، أما الآن وقد بات الطيران الروسي في الأجواء السورية يغطي جميع المقاتلين الموالين للنظام مع وجود خطط لإقامة قاعدة عسكرية دائمة في اللاذقية، فإن التطابق الروسي - الإيراني مستمر. الطائرات الروسية هي القوة الجوية لحلفاء إيران على الأرض. روسيا في السماء وقوات النظام و «حزب الله» وعناصر إيرانية على الأرض. موسكو تاج التحالف الرباعي الروسي - الإيراني - العراقي السوري. الحلف الرباعي ضد «التكفيريين». الحلف الرباعي لقتل آلاف التكفيرين في أرضهم. عملياً، تعاون مشترك هدفه: وقف نكسات القوات النظامية، منع تقدّم مقاتلي المعارضة على معقل النظام، رفع كلفة إقامة مناطق آمنة شمال سورية قرب تركيا وجنوب سورية قرب الأردن، الإفادة بالحد الأقصى من السنة الأخيرة من إدارة الرئيس باراك أوباما، فرض وقائع جديدة قبل وصول رئيس جديد الى البيت الأبيض، والسعي الى عدم الوقوع في فخّ المستنقع السوري. لكن في المدى المتوسط والطويل، يمكن الحديث عن إمكانية انتهاء زواج المصلحة بين روسياوإيران في البيت السوري والنظام الإقليمي - الدولي الجديد: سورياً، كانت إيران تدعم الميليشيات والجيوش الصغيرة وتقابل نزيف الجيش النظامي بزيادة الاعتماد على عناصر محسوبين عليها، بل إنها أخّرت ترفيعات الجيش النظامي لإضعافه. الأسلحة المتطورة كانت تُعطى للميليشيات وليس الى الجيش. الانتصارات كانت تُعطى للمحسوبين عليها وليس الى الجيش. في المقابل، فإن روسيا تدعم الجيش النظامي وتسعى الى ضمّ الميليشيات تحت لواء الجيش. ترى مصالحها في سورية عبر مؤسسات النظام والحكومة مثل الجيش والأمن والوزارات، فيما ترى طهران مصالحها في نظام الظل الذي تسعى الى إقامته. روسيا تدعم الحكومة من خلال دعم منشآتها الاقتصادية والخدمية. وإيران تقيم منشآتها وجمعياتها وتشتري عقاراتها وأراضيها. بقيت العلاقات بين سورية والاتحاد السوفياتي عقوداً. أكثر ما تحقق من «تبشير شيوعي»، كان في بضعة آلاف من الطلاب الذين درسوا في دول الاتحاد السوفياتي السابق وعادوا بزوجاتهم الى سورية. يجري الحديث عن 20 الى30 ألفاً. لم يتغلغل السوفيات في المجتمع السوري وبقي الإنتاج الثقافي السوفياتي فيه هجيناً، نخبوياً فقط. أما إيران، فإنها سعت في شكل حثيث الى التغلغل في هذا المجتمع وتغيير الديموغرافيا والأيديولوجيا. أقامت مزارات شيعية جديدة ووسّعت الموجود منها، مزارات الشيعة في مواجهة المراكز الثقافية الروسية، وكتب الدين في مواجهة الروايات السوفياتية. لا تمانع طهران نقل شيعة إدلب الى دمشق، ونقل سنة ريف دمشق الى إدلب. ولا تمانع في التعامل مع الفصائل الإسلامية مثل «أحرار الشام»، فصائل سنية تعطي شرعية لفصائل شيعية. أما روسيا، فلا ترى فرقاً بين الفصائل الإسلامية: كلهم «داعش»، كلهم إرهابيون، وترى اللعبة الكبرى وتدخل من الباب، فيما إيران تتغلغل في التفاصيل وتتسرّب من النافذة. سياسياً، إيران لم تقبل «بيان جنيف»، هي ضد «المرحلة الانتقالية»، وضد «هيئة الحكم الانتقالية». لم تدع الى «جنيف-2» لأنها لم تقبل «جنيف-1». ترى في العمق أن أي حلّ سياسي على المستوى الوطني، يعني خسارتها سورية وخط الإمداد الى «حزب الله». تفضّل خيار الإقليم، من دمشق الى الساحل. أما على المستوى الوطني، فهي تفضّل المحاصصة الطائفية، نموذج لبنان القائم على المحاصصة وليس نموذج العراق القائم على حكم الغالبية. كان هذا واضحاً في المبادرة الإيرانية المعدلة بنقاطها الأربع التي تضمنت تعديلاً للدستور لحماية الأقليات والإثنيات، وانتخابات ب «رقابة دولية». هي تريد وقفاً للنار، شرعنة الميليشيات، ثم محاصصة طائفية «من تحت الى فوق». روسيا، كانت إحدى الدول الراعية ل «جنيف-1»، ولها فهمها لهيئة الحكم الانتقالية: أن تكون تحت سقف الرئيس بشار الأسد، وألا تتضمن صلاحياتها الجيش والأمن. لكن موسكو تتمسّك بالحل «من فوق الى تحت»: حكومة أو هيئة اننقالية، انتخابات برلمانية، تعديل للدستور، وانتخابات رئاسية. التدخل العسكري الروسي الأخير، مبتغاه السيطرة على مناطق النظام وتحصينها، حماية الأقليات ثم الانطلاق الى استعادة السيطرة على باقي البلاد وقضم مناطق المعارضة قطعة بعد أخرى. إيران، كانت مكتفية بالإقليم، الذي يحمي ظهر «حزب الله»، يحافظ على خط الإمداد العقائدي والعسكري، يضع لها موطئ قدم في البحر المتوسط، يحمي المزارات الشيعية، يضعها على جبهة الجولان ويربطها مع جبهة جنوبلبنان. حاولت إيران السيطرة على ميناء طرطوس وتوسيعه، وكذلك وراثة روسيا. كان هذا جرس إنذار في الكرملين. إقليميا ودولياً، تربط طهران الملف السوري بملفات العراقولبنان واليمن والبحرين. لا تعترف بحدود الدول. تريد مقايضة: اليمن مقابل سورية، والتفاوض على أساس أن إيران تمثل الشيعة مع دول عربية أو إقليمية على أساس أنها تمثل السنة. الصراع تريده طائفياً. لا تحبذ كثيراً دور مصر. المعادلة طائفية وليس قومية من وجهة نظرها. ترى الشيعة الحامل الفاعل للمشروع الإيراني. هي تريد وراثة الانسحاب الأميركي في الإقليم. تعقد صفقات تحت الطاولة مع واشنطن. وكانت طموحاتها عالية بعد توقيع الاتفاق النووي مع الدول الكبرى. موسكو تربط تدخّلها العسكري في سورية بالملفات الدولية: أوكرانيا، العقوبات على روسيا، العزلة الدولية على الرئيس فلاديمير بوتين، مشكلات روسيا الاقتصادية، وأسعار النفط. التدخل أيضاً، يعيد الى حدّ ما الصراع الإقليمي الى جانبه السياسي ما لم يقع في الفخ الديني ويتحوّل الى إسلامي - مسيحي، مقاومة - احتلال. يصبح التنافس على المصالح، ليس شيعياً - سنياً، بل تموضع سورية في الإقليم، ففي معادلة كهذه تكون مصالح الدول أكبر من الأشخاص. على رغم كل الإشارات والتسريبات عن أن التدخل الروسي هو «المفاجأة» التي كان يحضّر لها قائد «فيلق القدس» قاسم سليماني، فإن موسكووطهران تقتربان من مفترق طرق في سورية. أولوياتهما مختلفة. ستجدان صعوبة في التوفيق بين الحائك الإيراني للسجادة السورية واللاعب الروسي في الشطرنج السوري. إنه زواج مصلحة في سورية، لن يدوم طويلاً. إطلاق صواريخ بعيدة المدى من بحر قزوين مروراً من فوق إيرانوالعراق الى سورية، كان رسالة الى خصوم موسكو وحلفائها: نحن هنا في الإقليم، لاعب رئيسي في النظام الإقليمي الوليد واللعبة الدولية، ولاعب رئيسي في الشرق الأوسط. روسيا ترى مصالحها في المؤسسات، وإيران ترى مصالحها في الأشخاص. * صحافي سوري من أسرة «الحياة»