قناع أسود، وسبابة ترتعش ذهاباً وإياباً، وكف تضرب كفاً، إشارات ستكون تلقائية، ل«أبي همام المهاجر»، وهو يتحدث إلى كاميرا تنظيم «داعش»، قبل لحظات من تنفيذ عملية انتحارية في غرمائه العراقيين على أسوار الرمادي، لولا أن «عبرات» خرجت عن السياق، أوحت بأن «الموت» الذي حاول رؤساؤه تصويره وردياً، لم يكن بسيطاً بما يكفي، ليغدو إلى «الهمر المفخخة» ضاحكاً مستبشراً. مآقي المهاجر في فيلم «الرمادي ملحمة الجهاد»، الذي أنتجه «داعش» الإرهابي أخيراً، وإن كانت على الأرجح غير مقصودة مثل خطوات التنظيم الكثيرة، إلا أن انكسار زميله أبو موسى البريطاني، وهو يودع رفاقه لحظات ما قبل «الانغماس»، ربما كان دليلاً آخر على أن اختلاف الفقهاء والجماعات، والتلاعب ب«المصطلحات»، لم ينجح بعدُ في تلطيف «مهمة الموت»، حتى وإن حاول كثيرون إبراز صورة مغايرة. وبرهن منشور آخر لتنظيم «القاعدة»، على أن العمليات الانتحارية أو الاستشهادية أو الانغماسية أو الفدائية، على رغم اعتماد التنظيمات الإرهابية عليها في حسم معاركها، إلا أنهم يعانون في «التجنيد» لها، أكثر من بقية المهمات القتالية، إذ يشير من لقب نفسه «أبو دجانة الخراساني» إلى أنه كان يفترض أن يقوم بعملية انتحارية، إلا أن الظروف الأمنية اقتضت تأجيل التنفيذ ليلة أخرى، فأراد تدوين شعور أمثاله في تلك اللحظات. ومع أنه حاول الترويج للفكرة أثناء مقالته، إلا أن أسطراً خرجت عن السياق مثل «عبرات» أبي همام، كشفت ما وراء الكواليس، وقال: «ما زالت الساحة بحاجة إلى الاستشهاديين، وكم اختلطنا بإخوة يستطيعون الوصول إلى أهداف حسَّاسة في العدو بسبب لغتهم أو جنسيتهم أو شكلهم، ولكنهم لا يقبلون القيام بالعملية الاستشهادية لأسباب مختلفة، ويغلقون على أنفسهم باب نكاية عظيم». ولأن الناشطين في الحركات الجهادية أدركوا مبكراً «هول تفجير الذات» على مقاتلين كانوا يتوقعون المشاركة في مواجهات تقليدية، حاولوا تلطيف المصطلح من عمليات «تفجير» إلى «استشهادية»، ثم بعد أن غلبهم الفريق المضاد لهذا النوع من العمليات بإطلاقهم عليها «العمليات الانتحارية»، عادوا إلى التراث مجدداً بحثاً عن مفردة تسهم في تلطيف ذهابهم إلى «الموت بسرور»، فلم يجدوا أفضل من «العمليات الانغماسية»، وهم بذلك يغازلون عناوين في كتب الجهاد القديمة، حول «فضل الانغماس في العدو». وفي سورية، بدت التنظيمات أخيراً تخصص برامج للتدريب على «الانغماس»، تنتقي لها صغاراً في السن، خصوصاً «داعش» و«الكتيبة الخضراء» التابعة لتنظيم «القاعدة»، لكن الأخيرة أشارت في منشوراتها إلى أنها تعني ب«الانغماس» المقاتلين الذين يمشطون الأهداف بعد تنفيذ العمليات الانتحارية مباشرة، إلا أنهم غالباً ما يكون موتهم محققاً، ولذلك يجتهدون أن تكون أعدادهم قليلة. التنظيمات الجهادية في حالات الضرورة، تلجأ إلى الإيقاع بمنفذ العملية، فتضعه أمام الأمر الواقع، أو تهدده بالقتل، إن لم يستجب، مثلما يروي سعوديان تحدثا ل«الحياة» عن أيام تنظيم «القاعدة» الأولى في العراق، إذ استقبلهما أمير المجموعة التي التحقا بها قائلاً: «لدينا مجموعة من السيارات المفخخة الجاهزة، لتنفيذ عمليات انتحارية». وكاد الشابان أن يصعقا من هول الصدمة، «أول ما تطأ أقدامنا العراق ننتهي في عملية انتحارية، هكذا بكل سهولة»، ليجيبهما الأمير غير مكترث: «هذا ما لدينا الآن، إن أعجبكما وإلا فابحثا عن غيرنا». وفي تلك اللحظة قررا العودة إلى بلدهما، وصرف النظر عن قتال الأميركيين في العراق! سلاح التنظير ولم تكن الحيل الميدانية، هي الأسلوب الوحيد للتنظيمات الجهادية، في محاولة تلطيف العمليات الانتحارية، فهنالك أيضاً ساحة حرب أخرى في الجانب التنظيري، يخوضها فقهاء المجموعات. لكن المختلف في هذه الناحية، أن منظري الجماعات، يجدون في «سجل الفتاوى» و«دواوين التراث»، ما يجعلونه سنداً لعملياتهم، حتى وإن اختلف السياق كلياً، فاختلاف الفقهاء المعاصرين حول «تفجير الذات بقصد النكاية في العدو»، كان أُثير في الأصل نحو جهاد الفلسطينيين ضد العدو الإسرائيلي، بينما هم يناقشونها في سياق جهادٍ لا يرى أحد من أولئك المفتين مشروعيته، مثل ما يمارسه تنظيم «القاعدة»، و«داعش» الإرهابي، و«حزب الله» أخيراً في سورية. ونشأ أصل العمليات الانتحارية في الحرب العالمية الثانية، عندما ألقى الطيارون اليابانيون بأنفسهم وطائراتهم في أعماق البارجات الأميركية، بحثاً عن تحقيق نصر ساحق في الحرب الدائرة بين الجانبين يومئذ. ثم تلقف المقاومون في فيتنام واليساريون تلك الوسيلة في إرباك الخصوم، إلا أن الاستخدام الأول له على النهج الجهادي كان من جانب «حزب الله» اللبناني أثناء حربه ضد إسرائيل 1985، عندما جند الفتى أحمد قصير لتفجير نفسه في العدو الإسرائيلي. وأخذت الفكرة زخماً أوسع، عندما دخلت على خط قضية المسلمين الأولى في الحرب الدائرة مع الإسرائيليين، يوم أن فجرت آيات الأخرس نفسها في جمع من الإسرائيليين 2002، ما أحدث هزة عربية، اختلطت فيها العواطف بالفقه والشعر والحماسة، ففرضت العمليات الانتحارية منذ ذلك الحين نفسها، حتى غدا من لا يرى مشروعيتها الفقهية يواجه حرجاً وضغطاً اجتماعياً غير تقليدي، لم يثبت معه على رأي المنع سوى قلة مثل مفتي السعودية الحالي الشيخ عبدالعزيز آل الشيخ، الذي سار على نهج مدرسته الفقهية التقليدية التي ترفض قتل النفس «مهما كان المبرر»، ومثله سلفه الشيخين عبدالعزيز بن باز ومحمد بن عثيمين. أما الزخم الأكبر لدى التنظيمات المتطرفة، فغذته أكثر أحداث 11 أيلول (سبتمبر) التي يعدها الجهاديون «مجداً غير مسبوق لهم» في «إثخان العدو»، حتى إن زعيم «القاعدة» الراحل أسامة بن لادن ظل يحاول ويحث عناصره على التأسي بالحادثة وإنجاز شبيهة بها، وإحياء ذكراها باستمرار، مثلما وثقت أوراقه التي أفرج عنها الأميركيون بعد مقتله في باكستان 2011. ومع ذلك حتى تلك الحركات التي تحاول اعتبار العمليات الانتحارية أمراً مشروعاً بلا منازع، ظل منظروها الأوائل يشددون في اشتراطات تلك العمليات، مثلما يوثق الباحث السعودي ماجد المرسال، الذي أكد أن «قول الغلاة بأن العمليات الانتحارية أفضل صور الجهاد في سبيل الله وتقريره مشروعيتها من دون قيود، غلو تجاوز فيه أقوال حتى المجيزين الذين قيدوا الجواز بشروط كثيرة، بل إن غلاة منظري القاعدة وغيرها (مثل أبو محمد المقدسي) لم يروا أن الأصل فيها الجواز، بل رأوا أن الأصل فيها التحريم، وأن إجازتها إنما هو خلاف الأصل».