تواصل الدراما التلفزيونية الغربية اقترابها من أجواء السينما وعوالمها. لم يعَّد الأمر مقتصراً على أعمال هنا وهناك، بل يكاد أن يتحول الى اتجاه عام للدراما التلفزيونية الجديّة التي تنتجها قنوات تلفزيونية عريقة. وحده زمن الأفلام هو الذي يميز سينما اليوم عن التلفزيون. لكنّ هذا الزمن، والذي كان يرفع السينما في الماضي فوق بلادة مسلسلات التلفزيون، يتم توظيفه وتسخيره في مسلسلات العقد الأخير ليكشف بروية وجودة عالية عن تفاصيل القصص والشخصيات ويمنحها العمق والوقت لكي تنضج وتتبدل، وهو الأمر الذي لا يتوافر دائماً للسينما. ينضم مسلسل التحريّ الجديد «المحقق الحقيقي» الى قائمة المسلسلات التي لم تعد تنتمي الى عالم التلفزيون التقليدي. هو مثلاً يستعين بإثنين من نجوم السينما: ماثيو ماكونهي ووودي هارلسون. الأول يعيش منذ سنوات تحولاً بارزاً في طبيعة الأدوار السينمائية التي صار يقدمها، الامر الذي أهله أخيراً للظفر بجائزة الاوسكار عن فيلمه «نادي مشتري دالاس». اما الثاني، الذي وإن بدأ حياته من التلفزيون، سرعان ما انتبهت السينما لمواهبه ليتحول للعمل فيها. ثم إن الجريمة التي يحقق فيها المسلسل، بسوداويتها والمُحرمات التي تتضمنها، هي غريبة عن عالم التلفزيون، حتى إن السينما نفسها بهامش الحريات التي تملكه لا تتناول بسهولة موضوعات مثل تلك التي تمر في مسلسل «المحقق الحقيقي». مسلسلات التحري يسير المسلسل الجديد الذي انتجته قناة «HBO»، على خطى مسلسلات التحريّ الاسكندنافية، لجهة تقديمه قصة جريمة واحدة للموسم كله، عوضاً عن جريمة لكل حلقة كما تفعل المسلسلات البريطانية والأميركية التقليدية. يفرد العمل الجديد مساحة كبيرة لفريق التحريّ عن الجريمة. هما هنا رجلان في منتصف العمر. أحدهما (يلعب دوره ماثيو ماكونهي) كتُوم، غريب الأطوار، يبدو إنه يُخفي تاريخاً عنيفاً. فيما الثاني (وودي هارلسون) هو رجل عائلة، ولكن وإن بدا من الخارج إنه وجد الإستقرار، فإن سير الاحداث سيكشف عثراته وطباعه المتوترة. يبدأ المسلسل من الزمن الحاضر عندما يُستدعى المحققان اللذان تركا الخدمة لأسباب مختلفة، للإستفادة من خبرتهما في جريمة كانا يحققان فيها قبل عقد تقريباً، ولم ينجحا وقتها في الوصول الى الفاعلين. تشِك الشرطة برابط بين جرائم ذاك الزمن، وسلسلة من الجرائم الجديدة التي تضرب ولاية لويزيانا في جنوبالولاياتالمتحدة، حيث تدور أحداث المسلسل. تستغرق إستعادة أحداث من الماضي، أكثر من خمس حلقات من المسلسل، لكنها كانت ضرورية لفهم شخصيتي المحققين. المسلسل ليس الأول في تقديمه العالم السوداوي الذي يعيش فيه محققو الجرائم، لكنه سيأخذه الى آفاق جديدة. هما هنا جزء من العالم المُعقد للجرائم التي يحققان فيها، لكنهما يتميزان بأنهما يقفان على الجانب الآخر من القانون. وتحاصرهما الكوابيس الخاصة والمهنية، كما إن إنغماسهما في حل عُقد الجرائم، لا يقل عن هوس مرتكبيها. أسباب عدة تجعل من «المحقق الحقيقي»، أحد أفضل المسلسلات المعروضة على الشاشات التلفزيونية حالياً. فهو يستعيد مثلاً أجواء السبعينات والثمانينات في السينما، بتركيزه على شخصيات ذكورية والتحدي الذي يواجه هذه الشخصيات. كما يجتهد في تقديم لغة بصرية توازي سوداوية ما يتعرض له، فيقدم مشهديات رائعة للجنوب الأميركي، حيث الفقر والبطالة والإهتراء تنخر الحياة هناك. ثم، هناك تجريب في بناء المسلسل الزمني والانتقالات بين الحاضر والماضي فيه مبتكرة. من دون ان ننسى ما يقدمه الممثلان القديران من دورين لافتين بالفروقات الظاهرة بينهما، والتي تتضاءل مع تواصل أحداث المسلسل، معززين الصورة الدرامية الشائعة عن الحياة البائسة لمحققي الجرائم وعالمهم المُعتم.