يصادف يوم الأحد المقبل في السابع من شهر آذار (مارس) الحالي مرور تسعين عاماً على عقد المؤتمر السوري العام الذي اعلن ولادة المملكة العربية في دمشق. طبق الوطنيون العرب الذين شاركوا في ذلك المؤتمر مبدأ الحق في تقرير المصير، واختاروا اقامة دولة عربية مستقلة تمام الاستقلال وكاملة السيادة تضم سورية والاردن وفلسطين ولبنان. وأمل الوطنيون العرب ان تتحول هذه الدولة الى نواة لكيان عربي واسع يضم بقية الاقطار العربية. وفيما اعتبرالمؤتمر ان انضمام اللبنانيين الى الدولة الجديدة رهن بارادتهم واختيارهم، فإنه رفض رفضاً باتاً مشروع الحركة الصهيونية بإقامة وطن قومي لليهود على ارض فلسطين. لم تعش المملكة العربية السورية التي اعلنها المؤتمر الا بضعة اسابيع، اذ سرعان ما احتلت القوات الفرنسية بقيادة الجنرال غورو دمشق تطبيقاً لاتفاقيات وتفاهمات بين الدول الاوروبية الاربع: فرنسا، بريطانيا، ايطاليا واسبانيا حول اقتسام الاراضي العربية. وقد بدأت تلك الاتفاقيات بالتفاهم الودي عام 1904، وتطورت مع اعطاء بريطانيا وعد بلفور الى الحركة الصهيونية. سددت القوات الفرنسية التي قوضت حكومة دمشق العربية ضربة بالغة القسوة الى آمال الوطنيين العرب في الاستقلال والوحدة، والحقت ضرراً بالغاً بالعلاقات بينهم وبين الغرب. وامدت هذه التجربة المعادين للعرب والمصابين ب «الآرابوفوبيا» بذخيرة ضخمة من التبريرات التي استخدمت لتقويض الحكومة العربية. كذلك تحول غزو الامبريالية الاوروبية للمشرق العربي في العشرينات الى مادة للتحريض ضد الغرب بصورة عامة وليس فقط ضد الامبريالية الاوروبية. ورغم كل حسن النيات الذي ابداه المساهمون في اعلان حكومة دمشق العربية فإنهم لم يتمكنوا من نسيان نكوص الحكومات الاوروبية وخاصة بريطانيا وفرنسا بالوعود التي اعطيت للعرب لمساعدتهم على اقامة دولة عربية مستقلة محل الولايات العربية العثمانية. بيد ان الآثار السلبية لاحتلال دمشق ولتقويض حكومتها العربية المستقلة لم تتوقف عند استقلال الدول العربية ووحدتها. فقد امتدت تلك الآثار الى التطور السياسي للمنطقة العربية. ويعتقد مؤرخون ومختصون في العلوم السياسية وفي المنطقتين العربية والشرق اوسطية، مثل المؤرخ الاميركي جيمس كالفين والمؤرخ العربي جورج انطونيوس، أن تقويض المملكة العربية في دمشق لعب دوراً كبيراً في تعطيل المسار الديموقراطي في المنطقة العربية. ويستند هذا التقويم الى ما مثلته حكومة دمشق على ذلك الصعيد، وخاصة للطابع العام ل «القانون الاساسي للمملكة العربية السورية» الذي اصدره المؤتمر. عرفت المادة الاولى من القانون الاساسي حكومة المملكة بأنها «حكومة ملكية مدنية نيابية». ومنح القانون الملك صلاحيات واسعة على غرار الملكية الدستورية التي عرفتها الامبراطورية الالمانية قبل سقوطها في الحرب العالمية الاولى. الا ان القانون قيّد تلك الصلاحيات والحقوق، مثل حق الملك في اعلان الحرب وعقد المعاهدات مع الدول الاخرى واشترط «موافقة المؤتمر ومصادقته عليها» حتى تصبح نافذة. واقر القانون الفصل بين السلطات، فجعل استمرار الحكومة رهناً بثقة المجلس، والزم الوزراء بالاستجابة لاسئلة النواب واستجواباتهم وبتقديم كافة المعلومات التي يطلبونها من الحكومة ومن الوزارات المختصة. واسهب القانون الاساسي في وصف ادوات المراقبة اذ سمح لكل نائب بطلب تشكيل لجنة لتقصي الحقائق، كذلك انشأ القانون الاساسي ديوان المحاسبة ومحكمة عليا تنظر في خروج المسؤولين الكبار على الدستور وارتكابهم جرم الخيانة العظمى. وبيّن بالتفصيل الوسائل والادوات القانونية لاضطلاع المجلس بمهامه في التعبير عن ارادة الشعب وفي التشريع وفي مراقبة الحكومة. وحمى القانون حريات المواطنين وحقهم في ممارسة الشعائر الدينية والاجتماع والتعبير عن الرأي والتقدم بالشكاوى الى الجهات الرسمية المختصة. وبموجب القانون الاساسي اعتبرت «الحرية الشخصية مصونة من كل تعد»، وانه «لا يجوز مطلقاً التعرض لحرية المعتقدات والديانات»، وكذلك اعتبرت «المطبوعات حرة ضمن دائرة القانون»، وحرم تفتيشها ومعاينتها قبل الطبع. واعتمد القانون الاساسي نظام اللامركزية الادارية لما فيه من مزايا ومنها ضمان مساهمة الجماعات الدينية في الحياة العامة وتوزيع المشاريع بصورة عادلة على المناطق. اعتبر البعض ممن اراد التقليل من اهمية القانون الاساسي انه كان مجرد وثيقة اريد منها اضفاء مشروعية على حكومة دمشق. وربط هؤلاء بين هذا الغرض وبين اعلان الرئيس الاميركي وودرو ولسون عن تشكيل لجنة دولية تجوب المشرق العربي بغرض الوقوف على آراء سكانه وعلى مدى تطورهم السياسي وبالتالي حقهم في إقامة دولة مستقلة. ولما كان الاستحقاق الديموقراطي هو أحد المعايير الاساسية التي اعتمدتها تلك اللجنة المسماة «كينغ - كرين» في وضع تقريرها النهائي، فإنه لم يكن غريباً، في نظر المشككين بأهمية تجربة حكومة دمشق العربية، ان يؤكد المشرعون الذين وضعوا القانون الاساسي على الطابع الديموقراطي والنيابي لتلك الحكومة. بيد ان صدقية القانون الاساسي لا تستقى من مضمونه الديموقراطي فحسب، وانما ايضاً من معطيات اخرى رافقت تلك التجربة. فالمؤتمر جاء يعكس ارادة المواطنين وقد اختاروا اعضاءه على اساس النظام الانتخابي الذي كان مطبقاً في آخر دورة انتخابية عثمانية. وولد المؤتمر في خضم حياة سياسية نشيطة وحية طبعت المشرق العربي. ففي سورية نفسها تعددت الاحزاب السياسية. البعض منها، مثل حزب الاستقلال، كان موالياً للحكومة وللملك، بل كان مسيراً لها. مقابل هذا الحزب كانت هناك احزاب مختلفة مثل حزب الاتحاد السوري لم تشاطر الحكومة مواقفها. وحافظ المؤتمر على استقلاليته وبرهن عليها عندما تقدم الملك الى المؤتمر بخطة للتعاون وللتفاهم مع الفرنسيين فرفضها. لقد جاءت تلك التجربة في سياق تاريخي يؤكد اقتناع الوطنيين العرب بفكرة الديموقراطية والتزامهم بها. فالحركة العربية نشأت اساساً في خضم التحولات السياسية والديموقراطية الهامة التي شهدتها الامبراطورية العثمانية. وبرزت الحركة العربية كركن من اركان «مجلس المبعوثان» العثماني حيث لعب عدد من قادتها دوراً مهماً في الحياة البرلمانية وفي تأسيس الاحزاب والجمعيات السياسية، ولم يتوقف هذا السياق التاريخي بعد سقوط الامبراطورية العثمانية وبعد الطعنة الموجعة التي وجهت الى الحركة العربية يوم قوَّض الجيش الفرنسي حكومة دمشق. فإبان المرحلة الانتدابية لم يكف الوطنيون العرب في سورية ولبنان وفلسطين والاردن والعراق عن المطالبة بالحكم النيابي والديموقراطي، ولم يتخلفوا عن المطالبة بالاستقلال ولا عن نشر المبادئ الديموقراطية بين المواطنين والتشديد على اهميتها. فضلا عن هذا وذاك، فإن اللجنة الدولية التي اجرت استفتاءات واسعة ومقابلات مكثفة في سائر المناطق التي تمثلت في المؤتمر السوري العام، توصلت الى نتائج مشابهة تقريباً لما جاء في اعلانات المؤتمر ومواقفه تجاه اهم الموضوعات والقضايا التي كانت تستأثر بالاهتمام العربي والدولي. فخلافاً لما جاء به النظام الانتدابي فقد جاءت استفتاءات اللجنة وتقاريرها تؤكد توفر فرصة قيام حكومات ديموقراطية في المشرق العربي، بما في ذلك فلسطين، على ان يصرف النظر عن تنفيذ المشروع الصهيوني الذي يصطدم بإرادة ورغبات تسعين بالمئة من سكان البلاد. ان تجربة المملكة العربية السورية تدل على أن الفكرة العربية لم تقترن بنموذج واحد من نماذج الحكم بل بالعديد من هذه النماذج. وكان نموذج الحكم الديموقراطي النيابي واحدا من هذه النماذج. كما ان هذه التجربة تدل على ان لا ضمانة لنجاح اية تجربة ديموقراطية في المنطقة العربية ما لم تكن تستند الى رصيد شعبي قوي والى قوى ديموقراطية محلية تحمي التجربة من السقطات والثغرات. * كاتب لبناني