من قال إن حواجز «الميليشيات» في لبنان ولّت الى غير رجعة... على ضفاف الطرقات المختنقة بعجقة السيارات والغارقة في زحمة التأفّفات و «رالي» حرق الأعصاب، تتمركز حواجز «إزعاج»، هي النقيض المثالي لحواجز المحبة. أبطالها لا ينتمون الى أحزاب أو تنظيمات متفلّتة من قبضة السلطة... هم بكل بساطة «زعماء» مواقف (مرائب) السيارات. عنجهيتهم المفرطة وإحساسهم بأنهم «مرجعية» لا غنى عنها، يدفعانهم الى التسلّط والأمر والنهي وفرض التعليمات، وأحياناً كثيرة إصدار بلاغ «رقم واحد» بالطرد والعقاب. الأكيد أن ليس كل من يجلس وراء المقود هو الملك وسيّد نفسه، لأنه في أي لحظة سيكون بحاجة الى «منقذ» يخلصه من براثن «الخنقة» المرورية، وعندها قد يقع في يد من سيجعله يندم على قراره. ركن السيارة في قلب العاصمة بيروت حاجة ماسّة لا يمكن الاستغناء عنها، لكن مصير تلبيتها رهن بمزاجية «زعيم الباركينغ» واستنسابية قراره، وهكذا قد يصل الأمر بسائق السيارة الى «شحذ» مكان لسيارته في «قصر الزعيم»... ويدرك «قادة الباركينغ» في العاصمة حاجة الجماهير إليهم. فعشرات آلاف السيارات تمر يومياً، و «يتناطح» أصحابها للفوز ب «بقعة» صغيرة تقيهم شر ركن آليتهم... خارج العاصمة، وعلى هذا الأساس ينفشون ريشهم... وينفثون سمومهم في وجه من يعاكس أوامرهم. «ارجعي الى الوراء»... يصرخ بنبرة تحسبه كأنه عائد لتوه من جبهة القتال. «ما في محل... كوّعي وفلّي». ترتعب الفتاة لثوان، تتمالك أعصابها ثم تبادره بالسؤال: «لماذا الصراخ، ولماذا لا استطيع ركن سيارتي في الموقف». يرد باختصار من دون أن ينظر إليها «البراكينغ فول full» (ممتلئ). تطرح حلاً عملياً «تأخرت على موعدي نصف ساعة، سأترك المفاتيح في السيارة، وبإمكان شباب «الباركينغ» وضعها في المكان المناسب». ينهي المفاوضات بكلمة حاسمة «اذهبي الى موقف آخر... ما في محل». الخيار الآخر ليس متاحاً بسهولة. وفي يوم بيروتي طويل قد تجد كنزاً، ولكن من الصعب أن تجد مكاناً تركن فيه سيارتك... من دون عملية استجداء مسبقة. الأكيد أن «سلطة الأمر الواقع» التي منحها «زعماء الباركينغ» لأنفسهم تنطلق من قاعدة العرض والطلب. هجوم يومي منظم من المارة والمعروض من المواقف لا يليق بعاصمة، فيستسهل عندها «أمراء» مواقف السيارات فرض قواعدهم التي تتناسب عادة مع مزاجهم الشخصي. بهذا المعنى، قد يُفهم غياب مكان واحد لركن سيارة صغيرة داخل موقف مكتظ للسيارات. ولكن ما لا يمكن استيعابه هو الطريقة الفوقية التي يتعاطى بها هؤلاء مع طالبي «السترة» لسياراتهم. غير أن المتردّد الى بيروت بات يفهم قواعد اللعبة ويتصرّف على أساسها. فهناك فرق كبير بين سيارة موديل عام 90، تحاول حجز مكان لها في أحد مواقف العاصمة «المفوّلة»، وسيارة موديل العام الحالي أو أقل بسنتين. في الحالة الأولى، وفي أغلب الأوقات يكشّر «الزعيم» عن أسنانه ويجزم باستحالة تحقيق الطلب. وفي الحالة الثانية، فالأرجح أن «الزعيم» سينبش مكاناً من «تحت الأرض» لسائق السيارة الفخمة، لقاء عمولة تتخطى أضعاف تعريفة الدخول الى الموقف. واقع الأمر أن مواقف السيارات في العاصمة تحديداً، تخضع لسلسلة من «القواعد» تتمايز بحسب مزاجية المسؤولين عنها. أصحاب الاشتراكات الشهرية يتمتعون بامتيازات محدّدة تسهّل أمورهم، ولكن «ليس في كل مرة تسلم الجرة»، على قول شائع، لأن «قائد» الموقف الجشع قد يحشر رتلاً من السيارات الفائضة عن العدد المسموح، ما يؤدي الى محاصرة سيارات «الاشتراك» وعندها سيضطر هؤلاء الى انتظار فك الأسر عنهم للخروج من الموقف. بعض المواقف يقدّم «خدمة» المساعدة في ركن السيارة، لكن الأمر قد يتحوّل الى مصيبة حقيقية لأن صاحب الموقف قد تسكنه شهوة التمثّل بسائقي «الرالي»، فيعيد الأمانة مع عطل وضرر يساوي الاشتراك الشهري في «الباركينغ» مضروباً بألف. والكارثة الحقيقية تقع عندما تضع مواقف السيارات الأساسية في العاصمة حواجز تسدّ الطريق إليها لأن «الباركينغ فوّل»... عندها يصبح البحث عن موقف بمثابة إنجاز يصعب على الكثيرين تحقيقه، وقد يدفعهم الحائط المسدود الى إلغاء الزيارة المقرّرة. ومن جهة أخرى، تشكّل «بورصة» تعريفات المواقف عنصراً محيّراً إضافياً على لائحة المفاجآت غير السارة في اليوميات البيروتية الثقيلة. تعريفات من دون ضوابط تستنزف الجيبة ولا تعرف سقفاً طالما أن اللسان اللبناني عاجز عن التعبير عن «قرفه» من القيود التي تكبّل تحركاته. يبدأ الحديث ولا ينتهي عن «زعماء» المواقف. هم حتى إشعار آخر يمسكون اللبناني من اليد التي توجعه. ف «الحصرية» التي يتمتعون بها من خلال «الخدمات» التي يقدّمونها تحوّلهم الى «حكّام بأمرهم»، في غياب التعريفة الموحّدة والقواعد الصحيحة التي ترعى إجراءات ركن السيارات، بما يحافظ على النظام العام ومصلحة المواطنين. هذا من دون إغفال واقع «تفريخ» مواقف السيارات كالفطر في المناطق... مع رخصة أو من دونها. والقاسم المشترك الوحيد بين جميع المواقف هو عبارة «لسنا مسؤولين عن فقدان أي شيء داخل السيارة». وهكذا مهما كبرت سلطة «الزعيم» أو تحجّمت، ومهما بلغت مساحة «الباركينغ»، إذا كنت من أصحاب ربطات العنق وسائقي السيارت الفخمة أو من المغلوبين على أمرهم... هنا يتساوى الجميع، لأن «باركينغ» الخدمات والتنفيعات ليس مسؤولاً عن أغراضك الشخصية.