العنوان مُقتبس من مصطلحات اللغة البلدية التي يتكلّمها الشعب المصري. فإذا ذهب جمهور منه لمشاهدة فيلم سينمائي واكتشف أنه مخيّب للآمال، خرج من الصالة وهو يصرخ ساخطاً «سيما أونطه... هاتوا فلوسنا»... الشعب اللبناني، كما الجمهور المصري، خرج أخيراً إلى الشوارع والساحات العامة مندداً صارخاً «دولة أونطه... هاتوا فلوسنا». لقد تأخر «الربيع اللبناني» عن موعده زمناً طويلاً، لكنه وصل، بل إن الشعب استحضره في تظاهرة أولى بدأت قبل أسابيع قليلة، ثمّ استمرّت، ولا تزال، وهي ليست خالية من الاستغلال السياسي. لكنها مستمرة بالحدّ المعقول من التنظيم والانضباط. ولعل ميزتها الأساس أنها من دون قيادة «مركزية». بل إن بيروت، كما تبدو من خلال اللافتات المرفوعة، والهتافات المتعالية، مدينة تشبه عواصم أخرى من القارة الأوروبية التي تحترم حق التظاهر الشعبي المدني السلمي. هي شهادة استحقتها بيروت أخيراً، ولا تزال تحافظ عليها بتعاون مثالي نادر في التقاليد اللبنانية بين المتظاهرين ورجال الأمن. فلا ضحايا، وعدد الجرحى قليل. إنه مشهد حضاري أن تبدأ التظاهرات وتنتهي في أوقات تكاد تكون محددة. لكن القضايا والمطالب التي تُطرح في الشوارع فاقت الحدود، وهي محقة، بل هي مستحقة منذ عشرات السنين، أي منذ بداية عهد الاستقلال، أي قبل 72 سنة. هي أجيال نشأت على إدارة الفساد في الدولة. فثمّة مثل قديم يقول أن الفأر يحفر وكره في المنازل الجديدة قبل وصول سكانها إليها. وفأر الفساد في الدولة اللبنانية سبق رؤساء الجمهورية ورؤساء الحكومات والوزراء والمديرين العامين وسائر الموظفين، من كبارهم إلى صغارهم، وكما في دوائر الحكم كذلك في مجلس النواب. المشهد اللبناني في الساحات العامة لا يزال منضبطاً. لكن إلى متى؟... هناك قصر جمهوري مفتوح على الفراغ. وهناك مجلس نواب مُقفل أمام الانتخاب، لكنه مفتوح للحوار. وهناك من يصرخ في الخارج: الوطن مهدد بالانهيار. و «الوطن» يعني الكيان، والجمهورية والنظام الذي لم يعد له معنى محدد. فهو ليس ديموقراطياً، ولا ديكتاتورياً. ولا طائفياً، ولا مدنياً، ليس عائلياً، ولا فردياً. له دستور، وله قوانين، وله مواثيق، لكنه ليس نظاماً. ومع ذلك فإنه مستمر. هو نظام سياسي لا تفسير له، إنه نسخة عن نظام اقتصاده. ثمة حكاية قديمة وشهيرة عن النظام الاقتصادي اللبناني تعود إلى زمن الخمسينات من القرن الماضي حين استقدمت الحكومة اللبنانية خبيراً عالمياً في الاقتصاد اسمه «فان زيلاند»، وهو بلجيكي، وكلفته درس وضع الاقتصاد اللبناني بجميع مؤسساته وإيراداته ونفقاته. وقد عمل ذلك الخبير أكثر من سنة وهو يدرس ويناقش ويحلّل حتى انتهى إلى وضع تقريره الذي كان عنوانه هو مضمونه: اتركوا نظامكم كما هو! لقد تبيّن لذلك الخبير أن نفقات لبنان تفوق مداخيله. لكن الخبير قال سراً لمن يعنيه الأمر: هناك فساد ونهب من المال العام. وطالما أن الدولة مستمرة فلا بأس! كان هذا في الخمسينات. فكيف هي حال لبنان اليوم وقد تجاوز معدل الدين العام مئة بليون دولار. وإذا كان هذا المعدل خطيراً، وهو خطير بالنسبة إلى بلاد ودولة وشعب بحجم لبنان، فإن المفجع في الأمر أن تبتلع الكهرباء الحصة الكبرى من البلايين فيما هي تغيب وتسحب فواتيرها من أفواه الفقراء اللبنانيين، ومن حساب التوفير المخصص لأدوية المرضى والعجّز التعساء. هذا البؤس الذي يلقي أعباءه على اللبنانيين يتفاقم مع مليون ونصف مليون نازح ومنكوب من الحروب الهمجية في سورية، وهم يتكومون في مخيمات من «خيش» وصفيح على أطراف السهول والسواحل اللبنانية، وفي زواريب المدن والأحياء الشعبية، حيث يتكدّس الفقر على الفقر، وتتخالط أصوات التوجع في ليالي الظلمة والحر، ولن تتأخر الأسابيع الآتية مع عواصف الرياح والأمطار والثلوج لتلقي حمولتها على الجميع. ومع تتابع زيارات المسؤولين الدوليين إلى بيروت، تجهد حكومة الرئيس صائب سلام لإثبات وجودها المجزأ بين فريق مداوم على الحضور وتسهيل ما أمكن من الخدمات، وفريق معتكف أو مقاطع، لكنه دائم الحضور على شاشات التلفزيونات، مرفوعاً على الأكتاف، مردداً مع المتظاهرين الهتاف ضد «الدولة الأونطه» التي هي «دولته»، وضد «الذين» سلبوا ملايين الدولارات من المال العام في صفقات جهنمية هو الأخبر في تفاصيلها وأسرارها. «دولة أونطه... هاتوا فلوسنا»، صيحة شعبية مدوّية في صدور الملايين من اللبنانيين وتعبّر عنها مئات اللافتات التي ترتفع في التظاهرات الجوّالة. لكن أين «الفلوس»؟... أين صارت؟... وعلى أي أسماء وأي حسابات وأرصدة رست في الداخل وفي الخارج؟ مع ذلك، يُقال أن في لبنان قانوناً معروفاً بعنوان «من أين كل هذا؟»، لكن المحاكم اللبنانية لم تتعرّف منذ نحو نصف قرن على أحد من الذين تنطبق عليهم مواصفات التهمة بالإثراء غير المشروع، في حين تحفظ سجلات مجلس القضاء الأعلى مجموعة أسماء من المسؤولين اللبنانيين الذين قدموا إلى الدوائر المختصة لائحة بأرصدتهم وممتلكاتهم قبل تسلّمهم المسؤولية. يصعب على اللبناني (اللبناني) أن يقرّ علناً، وكأنه يبوح بسرّ، أن وطنه فقد «الدولة»، وليس في الأفق ما يطمئن بأنها عائدة، إذ ليس في الأفق الداخلي، ولا في الأفق الإقليمي، أو الأفق الدولي، ما يمكن أن يطمئن بأن الدولة اللبنانية عائدة قريباً. وكيف للبناني أن يطمئن طالما أن الدول التي لها رعايا في لبنان تكرر دعوة هؤلاء الرعايا إلى المغادرة. وحدها الجمهورية الإسلامية الإيرانية لا تدعو رعاياها لمغادرة لبنان. تصوروا أنها تصدر مثل هذه الدعوة في حين لا تتوقف زيارات المسؤولين الإيرانيين إلى بيروت. ولعل الملفت أخيراً أن المسؤول الرسمي الإيراني كان في ما مضى ينزل في دمشق ثمّ يعرّج على بيروت. في هذه الأيام، صار ينزل في بيروت ثمّ يعرّج على دمشق. أليس هذا من باب رفع مستوى بيروت فوق مستوى دمشق في بروتوكول السياسة الإيرانية؟ لا بأس إن تصرفت إيران مع لبنان وكأنها تعيد إليه الصورة التي كانت تراه من خلالها في ما مضى. ولا بأس إذا كانت تقول أن لبنان كان وطن الذين لا وطن لهم في المحيط العربي، وأنه كان وطن الحرية والديموقراطية والصحافة والثقافة. وكان وطن العروبة المناضلة بالفكر والكلمة والمنبر. وكان وطن الحوار واختلاف الرأي والتلاقي. وكان وطن احترام حريات الآخرين وآرائهم. وكان وطن العلم والمعرفة والفلسفة والفن والأدب والقانون. وكان وطن الذهب والفضة والنقد النادر. وكان وطن الذكاء والشطارة والبراعة. وكان وطن النجاح والتقدم والنمو الدائم. وكان وطن الحكم والأمل بالمستقبل الأفضل. تلك كانت ركائز دور لبنان داخل حدود كيانه، وفي محيطه العربي، كما في حركة انتشاره عبر القارات والمحيطات. لقد تغيّر العالم، ولم تتغير مشكلة لبنان. سقط الاتحاد السوفياتي، واستعادت جمهورياته الأوروبية هوياتها القومية، كما استعادت لغاتها وألسنتها، وحضارتها، وثقافتها، وحرياتها، وقد أعادت بناء أنظمتها الاقتصادية والإنمائية، وازدهرت حياة شعوبها، ولا تزال أزمة لبنان تدور في فلك رجل واحد، وهو دائماً خارج الحدود. ولطالما حمل لبنان الأوصاف المسيئة إلى تراثه وتاريخه القديم الحافل بالمآثر المدنية. فقد لازمته لعنة الخراب، والدم، والعذاب، والقلق الدائم على المصير. وفيما كانت شعوب أخرى تنتقل من طور إلى طور أفضل، كان الشعب اللبناني، ولا يزال يتحسّب لما هو الأسوأ. في التاسع والعشرين من الشهر الجاري سوف يطل لبنان على العالم ممثلاً برئيس حكومته تمام سلام في دورة الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك. فهل يمكن أن يخطر في بال أحد من أعضاء الوفود أن يتساءل: ما هو مذهب هذا الرئيس الآتي ليخاطب وفود الأمم باسم جمهورية لبنان؟ وهل سيهتم أحد من الوفود إن كان تمام سلام مسلماً أو مسيحياً؟ ربما تساءل البعض من الوفود: لماذا لم ينتخب نواب لبنان رئيساً لجمهوريتهم منذ نحو سنتين؟... هذا هو السؤال المعيب بحق الدولة اللبنانية ذات الاسم العريق (سابقاً) في لائحة الدول العريقة بالثقافة والعلم والديبلوماسية. لكن أضواء الجمعية العامة للأمم المتحدة لن تدوم، ولن ترافق الرئيس تمام سلام في طريق عودته إلى البلاد. فهنا، في بيروت، العاصمة التي تحتضن بعضاً من كنوز الحضارات القديمة لا صوت من ذلك الماضي. ثمّة صوت واحد سوف يظلّ عالياً مردّداً: دولة أونطه... هاتوا فلوسنا... وليس من جواب إلا بالسؤال: أين صارت الفلوس؟... لقد ذهبت الفلوس إلى غير رجعة. وبات الأمل أن تبقى الجمهورية، وأن تقوم الدولة اللبنانية من جديد وليس أكثر. * كاتب وصحافي لبناني