معروف أنّ الخلدان حيوانات عمياء، أو شبه عمياء؛ أمّا أن تصبح الخلدان صمّاء أيضاً فهو أمر مستحدث لم يبرهنه علم. فعلى رغم أنّ الخلدان بلا آذان إلّا أنّها تسمع، تسمع وتصيخ السمع حتّى. لكنّ الروائيّ اللبنانيّ العشرينيّ عبدالحكيم القادري لم ينتظر العلم ولا المختبرات ولا النتائج بل أصرّ على عنونة روايته الأولى ب «الخلدان الصمّاء» (نوفل، هاشيت أنطوان 2015) وهو عنوان فذّ، يحكم على هذه الحيوانات الأرضيّة المسكينة بالعمى والبكم والصمم. فمن ينقذها؟ وهل من مُنقذ؟ خلدان رمزيّة هي شخصيّات الروائيّ الشاب. خلدان ولدت بنظر سليم وبرغبة نقيّة في العيش لكنّ قسوة المجتمع الذكوريّ المحافظ المستبدّ هي التي أسدلت الحجب على أنظارها وأجبرتها على استعمال مخالبها لحفر جحور لها تلوذ بها تحت الأرض. خلدان ولدت في عائلات مفكّكة تتخبّط في وحول العُقد والعادات والقيم البالية. خلدان هربت إلى تحت الأرض لتتجنّب وحشيّة الناس. نعم، لقد أصاب القادري عندما سمّى روايته «الخلدان الصمّاء»، فالخلدان تخشى البشر وتفرّ من أذاها، والخلدان تؤثر القبوع في جحورها بدلاً من الاختيال تحت أشعّة شمس المجتمع الحارقة الفتّاكة. والخلدان لا تشعر بالأمان إلّا عندما تلوذ في أنفاقها الضيّقة المعتمة التي تحفرها بنفسها لنفسها هرباً من الخطر، وهي حال شخصيّات القادري تماماً. فعملاً بنظريّة سارتر التي تفيد بأنّ الجحيم هي الآخرون، ارتأت شخصيّات القادري أن تبتعد، أن تختبئ، أن تحفر لنفسها جحوراً تبقى فيها إلى أن ينساها الزمن. لكنّ الزمن لا ينسى، والمجتمع لا يرحم، والبشر لا يسامحون. قصص خلدان متشابكة، قصص تسرد الموت والجريمة والقتل والخيانة والاغتصاب والعنف والمرض والتفكّك والاضطراب والعمالة. قصص تصف المجتمع الريفيّ في جنوبلبنان على لسان أحد أبنائه، على لسان مَن سمع ورأى وحفظ وأتى لينقل بلغة عذبة سلسة جميلة. نساء في مهبّ المجتمع يقع القارئ على امرأة ضعيفة في هذه الرواية، امرأة لم تستطع أن تتحرّر ولم يمنحها الرجل فرصة التحكّم بمصيرها. فالأب والشقيق والزوج والعشيق هم الآمر الناهي في حياتها وهي مجرّد كائن يتلقّى، ينفّذ ويطيع. خمس نساء يمثّلن خضوع المرأة في المجتمع. خمس نساء يجسّدن الألم في أوج حرقته والجور في أدنى دركاته. امرأة أولى هي "نينار"، ابنة المختار الجميلة الممشوقة القدّ المرموقة النسب التي تقع في حبّ الشاب غير المناسب «عمر». فتصدّق وعوده وتنصاع لطلباته وتعيش قصّة حبّ خياليّة لا تلبث أن تستيقظ منها لتجد نفسها متروكة مذلولة مهمّشة. فيدبّ الحزن في أوصالها، ويحرق القهر عروقها لتتحوّل إلى امرأة مجنونة تلوكها الألسنة وتصفعها العيون بنظرات الشفقة والنميمة والعار. أمّا «ندى» التي ولدت لعائلة محافظة، فولدت مجرمة، هي التي سرقت الحياة من أمام شقيقها يوم ولادتها. لقد جاءت المسكينة إلى هذه الدنيا حاملة معها لعنتها ونقمتها والسكينة التي ستظلّ مغروسة في أحشائها. حمّلها مجتمعها عبء جريمة لم تقترفها وعيّرتها عائلتها بأنّها «قتلت» شقيقها، هما اللذان كانا ينموان معاً في بطن الأمّ وشاءت الأقدار أن يموت وتنجو. فتحوّلت الفتاة إلى خادمة تسهر على حاجات عائلتها، فتطيع الأم الناقمة المستبدّة والأب الحديديّ القاسي والشقيق المتعنّت المتحكِّم والشقيقة الجميلة المدلّلة: «أمّها؟ لم تشعر بعبق الكلمة يوماً [...] كانت دائماً تصدّها، وبالمرصاد تنتظرها على أتفه التفاصيل، إضافة إلى أنّها شريكة زوجها وابنها في جرائمهما المعنويّة والجسديّة بحقّها.» (ص 137). ولتزيد الطينة بلّة، تقع «ندى» في غرام الشاب غير المناسب «عمر»، وتكون «حياة» ثمرة هذه العلاقة خارج الزواج، علاقة أتت لتضيف مأسويّة إلى قصّة «ندى». فتهرب الأمّ وابنتها «حياة» من وحشيّة الشقيق الذي يريد إراقة دم شقيقته ومن عنجهيّة الأمّ التي تقف في صفّ ابنها من دون تردّد. خسران الطفولة امرأة ثالثة، ضحيّة ثالثة، هي «لميا» شقيقة «ندى» الجميلة المدلّلة، فحتّى هي لا تتمكّن من الفرار من همجيّة مجتمع لا يحترم نساءه ولا يحميهنّ. فنزولاً عند أوامر والديها، تضطرّ «لميا» إلى الزواج من ابن عمّها الثريّ «هلال» الذي يسيء معاملتها ويقسو عليها ويحرمها أدنى حقوقها قبل أن تتجلّى حقيقته الوحشيّة في نهاية المطاف وبعد أكثر من عشر سنوات زواج. وإلى جانب هذه الضحايا الثلاث، ضحيّتان صغيرتان تُضافان هما «حياة» ابنة «ندى» و«سوسن» ابنة «لميا». فالطفل الذي تحمله «ندى» يكون فتاة على رغم رغبتها الشديدة في أن يكون صبيّاً، على الرغم من أملها في أن يكون صبيّاً لينقذها من العار. وكأنّ ولادة «حياة» في الظروف المضطربة هذه لم تكن تكفيها، وكأنّ دخولها الدير لتتربّى فيه بعيداً عن أمّها لم يكفها، كان لا بدّ للحياة من أن تقسو أكثر بعد، كان لا بدّ للقدر من أن يلعب أوراقاً أكثر ظلماً. فتتعرّض الصغيرة «حياة» للاغتصاب وتكون «سوسن» ابنة خالتها الشاهدة الوحيدة، الشاهدة التي تحكم عليها بحقد وكراهية وتحمّلها ذنب وحشيّة من أساء إلى جسدها، إلى براءتها. غير أنّ امرأة واحدة تتحكّم بزمام قصّتها والقصص كلّها. امرأة واحدة قويّة ماكرة بما فيه الكفاية لتبلغ مآربها. ولسخرية القدر، تكون هذه المرأة إسرائيليّة. نساء العرب كلّهنّ مستضعفات مظلومات منتهكات الحقوق والأجساد والأفكار، وحدها «أنيتا» المرأة الإسرائيليّة تتحكّم ب «عمر» وتحوّله إلى عميل إسرائيليّ، وحدها تتمكّن من ترويضه وتقلبه ضدّ أهله وعائلته وشعبه وأصدقائه. امرأة واحدة، إسرائيليّة فاتنة تكون السبب في مصائب وجرائم لم يتمكّن عمر من تجنيب مجتمعه وحشيّتها. فهل نلومها أم نلومه؟ تمكّن الروائي من نقل لوحة سرديّة صلبة متينة متماسكة حقيقيّة ثاقبة عن مجتمع متخبّط في مشاكله، عالق في دوّامات الذكوريّة والمظاهر والعادات والتقاليد. تمكّن في سرده من رصف نساء بلاده على الجدار السرديّ ليتعمّق في خسارة كلٍّ منهنّ ويأسها وألمها وحرقتها وعذابها وألمها وبؤسها وحزنها والظلم المحفور ضدّها والثورة التي لم تتعلّم كيف توقظها في نفسها. لقد نقل القدري قصص خلدان لبنانيّة عربيّة تختبئ تحت الأرض هرباً من الجور والقسوة ولكن عبثاً. فحتّى الخلدان الصماء لم تستطع الفرار من مصيرها.