مثل إحدى مسرحيات الفجيعة الإغريقية يبدأ نهار السبت التاسع من كانون الثاني (يناير) 2010. المكان: مطعم في منطقة راقية من العاصمة الفنزويلية كراكاس. الساعة تقارب الحادية عشرة صباحاً، وفي المطعم حوالى 60 شخصاً يجلسون الى فطورهم وقهوتهم. فجأة يصل اثنان على دراجتين ناريتين. يترجلان بسرعة. ينقض أحدهما على ساعة يد في معصم أحد رواد المطعم. الرجل ينتفض لوهلته فيطلق المسلح ثلاث رصاصات على صدره وبطنه. الحارس الشخصي للرجل يشهر مسدسه ويطلق النار من الرصيف المقابل... وما هي إلا ثوان حتى يسقط ثلاث ضحايا ويتحطم المكان كأنما ضربه زلزال. يفرّ المسلحان. يتهافت المارة والزبائن على النازفين ويحملونهم بالأيدي الى المستشفى القريب. في السابع والعشرين من الشهر ذاته تقع عملية كوماندوس في إحدى الضواحي الراقية من كراكاس. يدخل سبعة مسلحين بالقوة وفي وضح النهار الى عمارة سكنية. يحتلون أربعاً من شققها. يسلبون سكانها مالهم ومجوهراتهم ويلوذون بالفرار قبل وصول الشرطة. شهود العيان وضحايا العملية أفادوا بأن اللصوص كانوا يحملون أسلحة أميرية وأجهزة لاسلكي لم يروا مثيلاً لها إلا مع رجال البوليس. كما لاحظوا تأخر قوة التدخل في الوصول الى مسرح الجريمة علماً ان أحد الجيران اتصل خلال دقائق من بدء العملية. حاميها حراميها، ام هي سلسلة مصادفات؟ أياً تكن الإجابة عن هذا السؤال، فالمدينة التي أطلق عليها الكاتب الفنزويلي خوسيه إغناسيو كابروخس صفة «العائدة دوماً الى المستقبل» والتي حولها الديكتاتور غوسمان بلانكو الى باريس أميركا الجنوبية مالئاً جغرافيتها بالجادات الواسعة والمتاحف والمسارح والساحات المزينة بالنوافير والنصب، ثم جاء خلفه بيريز خمينيس ليضيف اليها اللمسة المعاصرة والتكنولوجيا المتقدمة - هذه ال «كراكاس» هي اليوم أعنف مدينة في العالم وأكثر العواصم هدراً للدماء البريئة حيث الموت قتلاً جزء لا يتجزأ من يوميات العيش، وحيث جرائم كثيرة لا يُبلّغ عنها بعدما فقد الشعب ثقته برجال الامن بسبب تورّط نسبة كبيرة منهم في أعمال السطو المسلح. تسجل صحيفة «الناسيونال» الصادرة في العاصمة الفنزويلية وقوع ثمانين ألف حادثة قتل في فنزويلا خلال السنوات العشر الفائتة، 73 في المئة منها في كراكاس. وتذكر الصحيفة نفسها أن عام 2009 شهد مصرع 14 ألف شخص عبر البلاد في جرائم السطو المسلح على أنواعها. الأبواب والنوافذ في كراكاس حديد صلب مزدوج المصاريع. كل مداخل العمارات مغلقة ومشفرة. كل المعابر الى المجمعات السكنية في الضواحي وقلب المدينة محروسة 24 ساعة بلا انقطاع. مع ذلك فالفلتان الأمني مستمر في مظاهر متكررة، أغربها وأكثرها رواجاً ما بات يُعرف باسم «خطف إكسبريس»: أنت في سيارتك، في وضح النهار، في قلب العاصمة، وإذا بمسدس مصوب الى رأسك. بعد ثوان أنت في صندوق السيارة تتصل من هاتفك الخليوي بكل من تعرفه طالباً جمع المبلغ الذي حدده الخاطفون لإنقاذك. تبليغ الشرطة يعني جنازتك. عدم الدفع يساوي حياتك. ولدى تسلمهم فديتك يرمونك في مكان بعيد وغالباً ما يفقدونك وعيك. السطو المسلح على المحال التجارية يأتي في المرتبة الثانية وقد يتخلله تبادل إطلاق نار وسقوط ضحايا وقد يحدث في اي وقت من النهار او الليل. وبما ان المواطنين تعودوا وقوع مثل هذه العمليات تراهم يحيدون عن مسرح وقوعها كما يحيد عابر سبيل عن قذارة في الطريق. تحتل المرتبة الثالثة عمليات الكوماندوس المذكورة آنفاً. ويذكر انها أقل الجرائم عرضة للفشل او الوقوع في قبضة الشرطة. ثم يأتي السطو الفردي على الشقق، وهو نمط قديم يتجدد باستمرار، فكلما بلغت الحراسة مستوى إلكترونياً متقدماً داواه اللصوص بالتي كانت هي الداء، إذ راج تداول المفاتيح القارئة للتشفير والأدوات الخالعة بصمت. يبقى السلب الشارعي تحت تهديد السلاح، إما في الطريق أو في مترو الأنفاق. وفي الحالين ينصحك الحريصون على سلامتك بعدم المقاومة: كثر فقدوا حياتهم دفاعاً عن ساعة ثمينة او حافظة نقود. لماذا لا تتصدى السلطة للجناة بالردع المناسب؟ في التقارير المستقلة ان 67 في المئة من الجرائم المذكورة أعلاه تذهب من دون عقاب. وفي أحد أغرب الأجوبة عن سؤال متلفز نفى وزير الداخلية والعدل طارق العيصامي (من أصل سوري) ان يكون تورط عناصر من الشرطة في الأعمال الإجرامية بلغ نسبة خمسين في المئة، وأوضح قائلاً: «أؤكد لكم ان هذه النسبة لا تتجاوز ال 25 في المئة». وما هي سوى شهور قليلة حتى تعرض احد انسباء الوزير الى عملية سلب مسلحة لم يستبعد أحد بمن فيهم العيصامي نفسه ضلوع الشرطة فيها! في المقابل ليست صراحة العيصامي سذاجة بقدر كونها اعترافاً بالواقع. فقبل نهاية العام المنصرم أوكل العيصامي الى قائد الجيش أمر إتلاف 32 ألف قطعة سلاح مصادرة من مجرمين بعضها مصنوع باليد. وكانت وزارته قد بدأت منذ 2006 برنامجاً لإعادة تأهيل رجال الأمن واستحداث أكاديمية جديدة لتدريبهم وتثقيفهم. الا ان الأسلحة لم تنقرض، بل ارتفعت أسعارها بعدما تفاقم السطو على أسلحة الشرطة، وبقي معدل الجريمة يعلو وينخفض بحسب شروط السوق المرتبطة بتجارة الأسلحة وتجارة المخدرات، ناهيك عن تفاقم النخاسة، وصرف البوليفار (العملة الوطنية) في السوق السوداء، مما بات معروفاً باسم «الاقتصاد الموازي». في البعد الاجتماعي تبرز أربعة عوامل وراء استفحال الجريمة في فنزويلا. الأول هو عمق الهوة بين الغني والفقير. الثاني بدء رزوح الطبقة المتوسطة تحت وطأة التدابير الاقتصادية المتقشفة، ما أدى الى انهيار معطيات حياتية ومعنوية أساسية دفع ببعض أبناء تلك الطبقة الى عالم الجريمة. الثالث تجذر نفسية «الرنشيرو» التي تستمد عنفها من صلف العيش في المجمعات المعروفة باسم «رانشوس» وهي ارخبيلات برية تتسلق التلال الخضر حول كراكاس، حيث تسود المؤثرات الفوضوية العائدة الى مفهوم ضرب النسيج الاجتماعي البورجوازي بأي شكل، كونه الحاجز الفاصل بين الثروة والحاجة، يغذيها شعور غبن طبقي، خصوصاً لدى السكان الأصليين الذين نزحوا من الأرياف بعد فشل محاولات إنقاذ الثروة الزراعية، قبل الإدارة الحالية وبعدها. السبب الرابع والأكثر التباساً وخطراً هو امتداد الفساد من قمة الهرم الى قاعدته أو العكس، فإذا بنا أمام «ثقافة وطنية» تجمع الى نهب أموال الدولة والشعب ضلوعاً في جرائم الخطف والقتل والإتجار بالمخدرات. صحيح ان الفساد صفة عضوية في مجتمعات أميركا اللاتينية، الا ان ارتباط الفساد ب «الثورة الجميلة» في فنزويلا يسجل تناقضاً حاداً بين خطاب السلطة والحقيقة على الأرض. لنأخذ مثلاً تقارير الأممالمتحدة التي أشارت في السنتين الماضيتين الى انخفاض نسبة البطالة في فنزويلا من 12 الى 7 في المئة. كيف حدث ذلك وبقي معدل التضخم (30 في المئة) على حاله؟ أصدر الرئيس تشافيز أمراً بمنع صرف أي عامل أو موظف إلا بعد اللجوء الى محكمة العمل، ما يعني انتظار شهور طويلة ومصاريف باهظة يبقى خلالها العامل عاملاً غير عامل! ثُم أمر تشافيز بتوظيف عشرات الألوف في المجمعات التجارية المؤممة وفي المستوصفات الشعبية المستحدثة، كونها البديل «الثوري» من المستشفيات الخاصة والعامة على السواء... بالطبع، انخفض مستوى البطالة، لكن مستوى الخدمات أيضاً تدنى في شكل غير مسبوق، ذلك أن التوظيف المسيّس لا يعير الخبرة جدارتها، ولا يختار الرئيس والمرؤوس بناء على التحصيل العلمي وبيانات الممارسة المهنية، بل يدفع بعدد من «الرؤوس» العاطلة من العمل الى وظائف تتطلب معرفة ومهارة وخبرة، ناهيك بالحافز المهني الذي توفره المنافسة، وهذه كلها معطلة بفعل قوانين العمل الجديدة وأعرافها «الثورية». من هنا كان لا بد للجريمة من ان تتسرب الى عصب المؤسسات العامة، خدماتية وتجارية على السواء. أي سوبر ماركت في أي مكان من البلاد يمكن ان يفتقد عدداً من المواد الغذائية الضرورية كالبيض والحليب واللحوم والسكر لفترات غير محددة، ولا يستطيع أي مواطن أن يستقصي السبب لئلا يُتهم بالانتماء الى الاوليغارشية البغيضة عدوّ الفقراء! مع ذلك يعرف المواطن المغلوب على أمره أن المواد المفقودة بيعت بالجملة في السوق السوداء من أفراد «العصبة البوليفارية» التي أسسها ديوسدادو كابيّو الوزير الحالي للأشغال العامة والإسكان، نائب الرئيس تشافيز سابقاً، والرجل الذي شغل منصب الرئاسة لساعات ثلاث خلال الانقلاب العسكري ضد تشافيز. لكن قبل ان ندرك قمة الهرم حيث يتربع كابيّو ورفاقه ممن أثروا في سرعة قياسية، لنسترق نظرة الى مسار العمل في الوزارات الخدماتية والمرافق التابعة لها: قبل «الثورة» كان المواطن يدفع رشوة متفقاً عليها ليسيّر معاملته، يقبضها سمسار يتقاسمها مع الموظفين المعنيين. وكان هذا التدبير سياقاً روتينياً محسوب القيمة مسبقاً. أما اليوم فيبدأ دفع الرشاوى ما ان «يبدو على ملامحك وأنت تركن سيارتك انك في سبيل الحصول على طوابع أميرية!»، يقول مقاول محدود الإمكانات اضطر الى تعليق مشاريعه بسبب إغلاق ثلاثة مصارف وضعتها الحكومة تحت الحجر اخيراً، وكان رأسماله في أحد حساباتها، ويضيف: «قبل «الثورة» كنا نعرف ما ينتظرنا في كل وزارة وإدارة ونأخذ في الاعتبار كون الرشوة ضريبة غير مباشرة لا مفرّ منها. غير ان الوضع تغيّر تماماً في السنوات الست الأخيرة، فبتنا ندفع نسبة 60 في المئة من تكاليف المشروع رشاوى. ولذا بات علينا تحميل دفاتر الشروط مصاريف وهمية كي ننتهي الى تحقيق بعض الربح. لكننا في النتيجة شركاء عملية احتيال على الدولة مهد لها موظفو الدولة أنفسهم ووضعونا تحت الأمر الواقع! نعم، دولة «الثورة الجميلة» مشرعة لناهبيها، كباراً وصغاراً، فعلى سبيل المثال لا الحصر، تقول طبيبة متخصصة في الأورام الخبيثة وأمراض الدم: «في المستوصفات الشعبية يتاجرون بالقطن والحقن والبنج والعقاقير الكيماوية. من السهل جداً ترك مريض بلا علاج لأن أهله لم يدفعوا ثمن دواء يفترض توافره مجاناً. عدد كبير من هؤلاء يموتون بسبب حجب الأدوية او تأخير تسليمها عمداً». اختار الرئيس تشافيز ضباطاً متقاعدين او على مشارف التقاعد وأولاهم الشأن الإداري في الطاقة والاقتصاد والأعمال والصحة مفسحاً لهم مجال «حلب بقرات الدولة» شرط الالتفاف حوله والتعامل الإيجابي مع لفيفه الوزاري. اما ان يكون الضابط المعيّن خبيراً أو حتى ملماً بالشأن المسند اليه فذلك مطلب مؤجل. وليست الدارات والفيلات والسيارات المصفحة ذات الزجاج المدخن والدفع الرباعي سوى مؤشرات سطحية الى ما يجنيه أولئك «الرفاق» من وظائفهم. فهؤلاء يقومون بدور ثانوي اذا ما قيس باللعبة الكبرى في قمة الهرم حيث يدير ديوسدادو كابيّو شبكة متعددة الخيوط تربط الفساد المالي بالجريمة والابتزاز وتسهيل ترانزيت المخدرات الذي تسيطر على إنتاجه وترويجه منظمة الجيش الثوري لتحرير كولومبيا. ويعتبر كابيّو أبرع المستفيدين من السلطة على الإطلاق، فهو يعمل بالواسطة، ويخفي الجزء الأكبر من ثروته في حسابات سرية، تاركاً مهمة التستر وحجب الحقائق لأزلامه، ابتداء من شقيقه ديفيد مدير دائرة الضرائب الذي رفض تكراراً نشر الواقع المادي لأخيه، مروراً بالمصرفي المخضرم هوسيه فينسينتي رانحيل، شريكه، عبر الوسيط الطوعي تورّيس سيليبيرتو، في صفقة شراء 49 في المئة من اسهم مصرف بانينفيست الذي وضعت الحكومة يدها عليه، ضمن عملية «السطو» الرسمي على المصارف الثلاثة الأخرى. ويتسلل عملاء كابيّو الى شركات التأمين الأجنبية المستقلة المولجة حماية مصالح شخصيات اقتصادية ومالية عاملة في المحيط الفنزويلي فيسلمون أسرارهم المالية الى عصابات خطف وابتزاز محلية او مرتبطة بجيش التحرير الكولومبي (فارك) الذي ارتكب المئات من عمليات الخطف والقتل والابتزاز على امتداد العقدين الماضيين. وفي أنباء أخيرة ان الرئيس تشافيز أمر بسجن ريكاردو فيرنانديز بارويكو، اليد اليمنى لكابيّو ومهندس المجال المالي في عملياته تمهيداً لكسب بعض ما فقده من شعبية في السنوات السبع الفائتة، ويأتي هذا التدبير قبيل الانتخابات البرلمانية الحاسمة، الربيع المقبل.