صادفت الأسبوع الفائت الذكرى ال 51 لاستيلاء حزب «البعث» على الحكم في سورية في 8 آذار (مارس) 1963. لكن لم يكن هناك سبب للاحتفال بذلك نظراً إلى أنّ البلاد تعيش حالة من الخراب ناجمة عن حرب دموية داخلية. كما أن كلّ ما تمّ تحقيقه حتّى الآن يتنافى مع مبادئ حزب «البعث»؛ إذ إنّنا نشهد حرباً أهلية طائفية بدلاً من المساواة العلمانية بين الطوائف الدينية السورية، وفساداً مستشرياً بدلاً من المساواة الاجتماعية، وتجزئةً للمجتمع السوري بدلاً من تحقيق الوحدة العربية. وعلى رغم ذلك، تشير هذه الذكرى إلى 51 سنةً من الخبرة العملية حول كيفية بناء نظام قويّ بوجود شخصيات سياسية موالية في مختلف المناصب الرئيسة. وقد استخفّ العالم الخارجي بشكل عامّ بقوة شبكة النظام وتماسكها، علماً أنّها تستند إلى الولاءات الإقليمية والقبلية والطائفية، فضلاً عن المحسوبية والمنسوبية. غير أنّ هيمنة العنصر العلوي على النظام تشكّل أيضاً مصدر ضعفه، ما يعوق كلّ إمكانية لتطبيق إصلاحات سياسية حقيقية. ومنذ البداية، غلب على المقاربة الغربية المتّبعة إزاء الثورة السورية نوع من المبالغة في التفكير المشتهى (الرغبوي)، من خلال إعطاء أسبقية للمبادئ التي من المفترض أن تستند إلى الديموقراطية على السياسة الواقعية. واعتمد الكثير من السياسيين الغربيين على ردود الفعل السياسية المحلية اليومية من أجل بلورة مواقفهم، بدلاً من وضع رؤية طويلة الأجل واتباع التفكير البراغماتي الموجّه نحو تحقيق نتائج ملموسة، والمساعدة على حلّ النزاع في شكل فعليّ. أمّا معظم السياسيين الغربيين، فكانوا يصمّمون على الإطاحة بالرئيس السوري، اعتباراً منهم أنّ من الممكن وضع حدّ للصراع فقط في حال توقّف الأسد عن تأدية أي دور فيه. ويُشار إلى أنّهم كانوا شديدي الوضوح بشأن بعض الأمور التي لا يوافقون عليها، إلا أنّهم لم يقترحوا أفكاراً واقعية تجسّد ما يريدون تحقيقه في المقابل. ولا شكّ في أنّهم يريدون تطبيق الديموقراطية في سورية، إلا أنّ من المستحيل أن ينتهي عزل الأسد عن الحكم من خلال اللجوء إلى العنف بتطبيق الديموقراطية بطريقة سلمية. وحتّى بعد مرور ثلاث سنوات على اندلاع الثورة السورية، لا تزال الجماعات المعارضة عاجزة عن التوحّد، كما أنّ بعضها يقاتل البعض الآخر. وقد تبيّن أنّ الأسد أقوى من المعارضة وليس لديه أي نية للتنحي عن الحكم. بل على العكس، إنّه عازم على تجاوز الثورة وإحراز انتصار في المعركة من أجل إبقاء السيطرة على سورية مهما كلّفه الأمر. إذ كلّما ارتفعت التكاليف المتكبّدة، ازدادت رغبته بمواصلة القتال لكي لا تكون عمليات القتل والضحايا التي خلّفتها قد ذهبت سدى. وهذا الأمر ينطبق على كلّ من النظام والمعارضة. واللافت أنّ نظام حزب «البعث» السوري الديكتاتوري تميّز على مدى نصف قرن بوحشيّته، إلا أنّ الجهات الخارجية تجاهلت هذا الواقع أو غضّت النظر عنه. وقد تمّ توثيق ممارسات القمع والعذاب داخل السجون، فضلاً عن مصير عدد لا يحصى من السجناء السياسيين، بكلّ ما تحمله من تفاصيل مروّعة. أمّا حقيقة أنّ نظام حزب «البعث» يتسبّب بموت عدد من خصومه الحزبيين البعثيين داخل السجون، فهي دلالة واضحة على أنّه لا ينبغي أن نتوقّع أي شيء إيجابي من الطريقة التي يتعامل بها الأسد مع معارضيه، والتي لا تعرف الرحمة أو العفو. وماذا عن الطريقة التي يتعامل بها مع قوى المعارضة الثورية المسلّحة التي تحاول إسقاط النظام، فهي تشتمل على المبدأ الآتي: إمّا القتل أو التعرّض للقتل؟ في الواقع، لا تظهر أي إمكانية للتوصّل إلى تسوية، لأنّ التوصّل إلى تسوية حقيقية بين المعارضة والنظام قد يساهم في حدوث تقاسم فعلي للسلطة وتطبيق إصلاحات سياسية جوهرية، سيكون محفّزاً لسقوط النظام في وقت لاحق. وبالنسبة إلى النظام، تشكّل الثورة الحالية مسألة صراع بين الحياة والموت، كما هي الحال بالنسبة إلى المعارضة. وإذا ما تمّت الإطاحة بالنظام، لا يبقى على قادة النظام هذا إلا انتظار صدور حكم إعدامهم، كما ستواجه جميع الشخصيات البارزة في نظام الأسد التي تمّ اختيارها من أوساط الطائفة العلوية خطراً شديداً، كما هي الحال بالنسبة إلى جميع الأفراد المنتمين إلى هذه الطائفة. لذلك، لا يعقل أن يوقّع الأسد على أمر بتنفيذ حكم الإعدام بحقّه. توقّعات للسنوات المقبلة بفضل الاتفاق الذي تمّ توقيعه بين الولاياتالمتحدة الأميركية وروسيا في العام 2013، حول التخلّص من الاسلحة الكيماوية التي تملكها سورية، استعاد الرئيس بشار الأسد بصورة شبه رسمية الشرعية التي تعطيه إيّاها الدول الغربية، علماً أنّ هذه الدول كانت قد توقّفت خلال مرحلة سابقة عن اعتباره رئيساً شرعيّاً للبلاد. ونتيجة عقد هذا الاتفاق، تراجعت الولاياتالمتحدة الأميركية عن تهديدها العسكري. إلا أنّه بعد التخلّص من أسلحة الدمار الشامل، قد يتمّ توجيه تهديد عسكري مجدّداً. وعلى رغم ذلك، من غير المرجح أن يحصل تدخّل عسكري على نطاق واسع من خلال نشر القوات على الأرض، نظراً إلى أنّ الدول الغربية لا تُظهر أي رغبة سياسية فعلية بتحقيق ذلك. ويدرك الأسد هذا الواقع تماماً، لذلك لا شكّ في أنّه سيواصل محاربة المعارضة التي تشكّل تهديداً محتملاً لمنصبه الرئاسي. غير أنّه قد يتمّ إجراء عمليات عسكرية أجنبية على نطاق أصغر، تقضي مثلاً بمنع القوات الجوية السورية من شنّ هجمات على المعارضة داخل المراكز السكنية. وثمة بعض الشكوك حول ما إذا كان من شأن فرض مناطق حظر الطيران تغيير التوازن العسكري على الأرض بشكل حاسم لمصلحة المعارضة العسكرية. من الممكن أن تستمرّ الحرب في سورية، ربّما لوقت طويل جدّاً، إلى حين ينجح أحد الطرفين في الاستحواذ على السلطة. والملاحظ أن الظروف الراهنة ترجّح أن يكون الانتصار من نصيب النظام، وربّما يتأتى عنه استبعاد موقت لبعض المناطق الجغرافية. وقد يعمد الأسد في وقت لاحق إلى إجراء بعض الإصلاحات السياسية فقط في حال كانت لا تشّكل خطراً على منصبه في المستقبل. إذاً، لا شكّ في أنّ هذه الإصلاحات ستكون شكليّة فحسب. ولا بدّ من أن يزداد الشعور باستياء شديد من النظام، حتّى في أوساط الطائفة العلوية التي تعارض إلى حدّ كبير كلّ ما كان نظام الأسد قد تعهّد بتطبيقه. إذ إنّ سلوك النظام هذا عرّض أفراد الطائفة العلوية كلّهم إلى خطر جسيم، بمن فيهم عدد كبير من المعارضين العلويين للأسد. والحقّ أنّ النزاع الحالي سيستمرّ إلى حين تحقيق العدالة لعدد كبير من الضحايا الذين سقطوا، مهما كان الطرف الذي ينتمون إليه. ولا تزال الجماعات المعارضة التي يُحتمل أن تشكّل أكبر خطر بالنسبة إلى نظام الأسد تنبثق من المجتمع العلوي نفسه. إلا أنّ انقلاب العلويين ضدّ الأسد يشكّل مسألةً ذات خطورة شديدة، لذا من المستبعد أن يحصل في المستقبل القريب، وبخاصّة إذا ما بقيت الطائفة العلوية تشعر بالتهديد من المعارضة التي تسيطر عليها الطائفة السنية. لقد أدّت الثورة السورية إلى اندلاع حرب بالوكالة، كانت لجميع القوى الخارجية، بما فيها البلدان الغربية وروسيا، وإيران، و «حزب اللّه»، مصلحة فيها، تكمن في تحقيق انتصار أو هزيمة أحد الطرفين السوريين في النزاع، الأمر الذي قد يؤدي إلى استمرار الأزمة الحالية على مدى السنوات المقبلة. لقد قدّمت الدول الغربية دعمها لقوات المعارضة التي تريد إسقاط النظام أو إضعافه، إلا أنّها في الواقع لم تساعد المعارضة في شكل ملموس على الاستيلاء على السلطة. * مؤلّف كتاب «الصراع على السلطة في سورية». سفير سابق لهولندا لدى دول عربية.