آخر قاعة في أجندة العمل الأسبوعية قاعة المطالعة. مكتبة صغيرة في نهاية الممر تطل نوافذها على ساحة الثانوية. فتحت النوافذ، واستنشقت الهواء البارد المتدفق لعله يطغى على رائحة الرطوبة القوية التي أطبقت على صدرها. مسحت الغبار من على الرفوف، وعدلت وضع بعض الكتب التي التوت أطراف أوراقها لطول وقفتها المائلة على بعضها بعضاً. غيرت كتباً من رف إلى آخر، ورتبت مجلات واحدة فوق أخرى بحسب إعجابها بصورة الغلاف، وهي متيقنة أن أحداً غيرها لم يلمسها منذ آخر أسبوع مرت فيه بممسحتها على الرفوف المكتظة بمختلف أحجام الكتب والمجلات. تكاد المنظفة الأربعينية غير المتعلمة تكون الوحيدة التي تقترب من الكتب، وتقضي في مكتبة هذه المؤسسة الثانوية العامة بعض الوقت، قبل أن تقفل الباب وراءها بالمفتاح، ويعم الهدوء التام وتتكاثف الرطوبة النفاذة في المكان. المكتبة في المؤسسات التعليمية، أو قاعات المطالعة كما يسميها الواقعيون اعتباراً لمحدودية وظيفتها المختزلة في توفير كتب المطالعة، تعيش عزلة شبه تامة داخل فضائها، لا يلجأ إليها الطلاب إلا نادراً، وقلما يحصل تفكير في فتح أبوابها لنشاط آخر غير القراءة. «انطلاقا من هذا الواقع يمكن أن نفهم لماذا تبدو المكتبات العمومية فارغة تقريباً إلا مما حوت من كتب»، يقول عبدالحي، وهو من المهتمين في الشأن الثقافي في مدينة الرباط. يعتبر التلميذ والطالب الجامعي «الزبون» الأساسي للمكتبات. إنه القارئ الاول في سلسلة القراءة العمومية الذي له علاقة يومية مع الكتاب والمعرفة والتحصيل، ويفترض أن تعج بحيويته هذه الفضاءات الثقافية. بيد أن هذا القارئ ليس «زبوناً» نموذجياً للمكتبة العامة، و «لا حتى قارئاً في الأصل»، يطلق عبدالحي حكمه القاسي على الشباب المتعلم، ويدعم رأيه بأزمة القراءة التي تبرز في إحدى الدراسات الرسمية التي تشير إلى فقدان المتعلمين الرغبة في القراءة، فضلاً عن أسباب بنيوية، مثل الفقر وتدني القدرة الشرائية وتفشي الأمية. عبدالرحمن حنصال، موظف في مدرسة علوم الإعلام في الرباط، وناشط في مجال المكتبات العمومية، والقروية بالتحديد، لا يحمل مسؤولية العزوف عن ارتياد المكتبات العامة للشباب والقراء عموماً، أو للظروف المعيشية وحسب، وإنما يرى أن المكتبات «قامت باللازم لتلفظ مرتاديها بمختلف فئاتهم العمرية والاجتماعية والفكرية. فلا تنويع في النشاطات، ولا منشطين للقراءة إضافة إلى استقطاب الأشكال الثقافية الكثيرة غير القراءة». ثلاث وظائف للمكتبات العامة، علمية وتربوية وترفيهية، لكن واقع الحال يبين أنها اختزلت في واحدة، هي بدورها ابتعدت عن مقوماتها. مجدداً، تبرز أزمة المكتبات والقراءة العمومية كأزمة مجتمعية عامة، تتجلى في البيت الذي لا يوجد فيه قارئ وكتاب، غير المقررات المدرسية، والشارع الذي لا يشجع على القراءة، بنواديه ومحاله التجارية، وبمقاهيه، لا سيما الافتراضية التي يتكدس فيها قراء أمام شاشة الحواسيب، «يقرأون» بطرقهم الخاصة، ويلتهمون الصورة والصوت، ثم أساساً بالمؤسسة التعليمية بمستوياتها كافة، حيث فشل المنظومة برمتها أكبر علامة على هذه الأزمة. تعد المكتبات رافداً من روافد التنمية، حيث للشباب مجال فسيح للمشاركة والاستفادة ونقل المعارف، «أليست المكتبة العامة في القرى أفضل من يقوم بتبسيط سياسات الدولة وحملاتها وتعميمها بين الناس المعنيين من الإرشاد الفلاحي أو تدبير أزمة الجفاف أو الفيضانات وطرق الوقاية من أمراض الحيوانات كأنفلونزا الطيور وغيرها؟» يتساءل حنصال الذي يدير جمعية لدعم المكتبات العامة في الأرياف مستبعداً أن تشكل التطورات التكنولوجية خطراً يذكر على مكانة المكتبات «فكلما ارتبطت المكتبة بمحيطها، قل خطر منافسة الوسائط الأخرى». والواقع أن جمعية دعم المكتبات القروية استطاعت إنجاز العديد من المكتبات المدرسية وبعض المكتبات العمومية في القرى لفك العزلة عنها، وتشجيع القراءة وتغيير نظرة الناس للمكتبة، لكن فك العزلة عن المكتبة نفسها لا يزال تحدياً كبيراً في انتظار انخراط الدولة في شكل جدي ومساهمة المجتمع المدني.