حينما ارتطمت قدماه بسطح الأرض، لم يكن إسماعيل عليه السلام يعلم أنها ستتفجر بماء مبارك ينقذ حياته وحياة والدته هاجر، بعد أن أمر الله نبيه إبراهيم بتركهما في «وادٍ غير ذي زرع» في مكةالمكرمة، قبل أن يتحول هذا الينبوع إلى بئر أُطلقَ عليها بئر زمزم، لتبقى معجزة من المعجزات الإلهية التي تؤكد قدسية «البيت العتيق»، ومعيناً لا ينضب يحرص الأهالي والحجاج والمعتمرون على التزود منه طلباً للشفاء وحلول البركة والمغفرة. وحول الكعبة، احترف منذ الأزل عدد كبير من أبناء مكة سقيا الحجاج من ماء زمزم، وتوارث المهنة الأحفاد عن الآباء والأجداد، وسنوا طريقة لتقديم «الماء المبارك» بعد ارتداء زيّ موحد، أصبح يشكل رمزاً لافتاً يُعرف به «الزمزمي» من دون غيره، في رحاب البيت الحرام. وفي مكة، اشتهر عدد كبير من أبناء المجتمع بهذه المهنة كعمدة محلة الهجلة حسين بيطار الذي أشار إلى أن الله شرّف أهالي مكةالمكرمة وكرّمهم بخدمة بيته العتيق، (الذي جعله الله مثابة للناس وأمنا)، لافتاً إلى شهرة أهالي مكة ببعض المهن، منها مهنة سقاية الحجاج، ويطلق عليهم «الزمازمة»، إضافة إلى مهنة أخرى، هي الطوافة، ويطلق عليهم «المطوفون». وداخل «المسجد الحرام»، يؤكد بيطار أنه كان لكل زمزمي خلوة يضع فيها أوانيه، مكونة من «الأزيار» الكبيرة، و«الدوارق» و«الشِّرَبْ»، المصنوعة من الفخار، إضافة إلى «حنابل»، ومفارش، وأوعية منقوش عليها آيات قرآنية، (تصنع من النحاس عادة)، «وكان على الزمزمي أن يجلب ماء زمزم من البئر بواسطة السقاة المتخصصين في نقل الماء إلى خلاوي الزمازمة المنتشرة في أروقة الحرم الشريف من بعد صلاة الفجر من طريق «القِرب»، المصنوعة من الجلد». وعن استقبال الزمزمي للحجاج والمعتمرين، لفت العمدة بيطار إلى أن لكل زمزمي بحسب أعداد حجاجه «بُسط» و«مفارش» في ساحات المسجد الحرام، لافتاً إلى أن «الزمزمي» وأبناءه يضعون «الدوارق» و«الشِّرب» بعد أن يضع عليها «النيشان» الخاص به، (وهو علامة تميزه عن بقية الزمازمة)، ثم يجري عملية تبخير «الأزيار» والأوعية ب«المستكة»، قبل تعبئة «الدوارق» و«الشِّرب» بماء زمزم «المبخّر» أيضاً، وألمح إلى وجود «مرافع» كبيرة وصغيرة داخل كل خلوة من خلاوي «الزمازمة» مصنوعة من الحديد والخشب، موزعة على ساحات الحرم، وعليها «الدوارق» و«الشّرب»، يشرب منها المعتمر والزائر وأهالي مكة، وتوضع «الدوارق» الصغيرة الحجم أمام البُسط التابعة لكل «زمزمي»، بعد تغطيتها بقماش «الشّاش». ويغوص «الزمزمي» بيطار في أعماق ذاكرته مستحضراً ذكريات «الزمازمة» في شهر رمضان المبارك، ومهمات عملهم فيه، يقول «كان عمل الزمازمة في شهر رمضان المبارك يبدأ بعد صلاة الظهر مباشرة، إذ يجهز كل «زمزمي» دوارقه لتوزيعها على الحجاج والمعتمرين والأقارب والأصدقاء والمطوفين التابعين له»، ويضيف أن «الزمزمي» كان يشجو بعلو صوته داعياً: «اللهم أني أسألك علماً نافعاً ورزقاً واسعاً وقلباً خاشعاً ولساناً ذاكراً وحلالاً طيباً وشفاء من كل داء وسقم». واستحضر «زمازمة» عدة ذاع صيتهم في مكةالمكرمة، ذكر منهم: سعيد عبده يماني، وأحمد عالم، وعبدالعزيز فرفر، وسليمان حسن بيطار، وعبدالهادي صدقة عيسى، وسليمان صالح أبو غليه، وحسن جندي، ومحمد طاهر فاضل، وعبدالله فاضل عتيق، وحسن حسن مطر وغيرهم (رحمهم الله جميعاً). وكشف أن الملك عبدالعزيز آل سعود، (رحمه الله)، أمر بإنشاء موقع للماء السبيل خلف بئر زمزم داخل المسجد الحرام، ليتزود الحجاج منه، ثم نقل بعد توسعة الحرم الشريف إلى خارج المسجد، منوهاً بحرص أبناء الملك عبدالعزيز من بعده على ذلك، لافتاً إلى أنها موجودة اليوم في شرق المسجد، (فجزاهم الله خيراً عن الإسلام والمسلمين). وأكد أن «الزمازمة» كانوا يشاركون «حاكم البلاد» أو من ينيبه مع سدنة البيت الحرام «آل الشيبي»، وخدام المسجد الحرام «الأغوات»، وبعض أهالي مكة في غسيل الكعبة المشرّفة في الأول من شهر شعبان والسابع من شهر ذي الحجة من كل عام، مشيراً إلى استمرار غسل الكعبة في ذات الأيام، حالياً. يقول بيطار «لا يتخلف الزمازمة عن حضور مناسبات الحجازيين الكبيرة» ، لافتاً إلى حرص الأهالي في كل مناسبة على دعوة «الزمزمي» كطريقة للتعبير عن كرم الضيافة، وإضفاء شيء من البهجة في نفوس المدعوين، والتمسك بالعادات الحجازية التي لا تنفصل عن بعضها في مختلف الأوقات، «ولا يزال عدد كبير من الزمازمة يتمسكون بهذه المهنة ويعلمون أبناءهم أصولها وأسرارها، لتبقى تقليداً حجازياً يميّز أبناء مكةالمكرمة». ويصف بيطار الزِّي المخصص الذي يرتديه الزمزمي، ملمحاً إلى أن «الزمزمي» يرتدي «الغبانة» فوق الرأس، (عمامة تحتها كوفية مكية)، ويلبس على صدره «السديري» الأبيض المتساوي الأطراف ذا الجيوب الثلاثة، ويلف على خصره «البقشة»، (شال من الصوف لتساعده على حماية ظهره)، ويحمل في يده اليسرى الجرة أو «الدورق» (مصنوعة من الفخار)، وفي فمها قطعة من «الخيش» لحماية الماء، منقوش عليها آيات قرآنية وفي يده اليمنى يحمل الوعاء النحاسي، «الذي يشرب منه الزائر».