من بين المسرحيات الكثيرة التي اقتبست عن الأساطير والنصوص اليونانية، خلال فترة العصر الذهبي للمسرح الكلاسيكي الفرنسي، كما مثّله بخاصة راسين وكورناي، وفي درجة أقل موليير، يعتبر اقتباس جان راسين ل «فيدرا» الأجمل والأبقى، خصوصاً أن هذا الكاتب الذي كانت الفلسفة الأخلاقية تشكل واحداً من اهتماماته الرئيسة، استحوذ تماماً على الموضوع القديم، وأحدث فيه تحولات اساسية، في الشكل كما في المضمون، ما جعل فيدرا لديه امرأة معاصرة، وبطلة - اشكالية، تقاوم ما هو مرسوم لها، بدلاً من ان نصاع امام ما شاءته لها الأقدار. صحيح ان فيدرا تنهزم اخيراً في معركتها وتخسر، ويبدو الأمر - في النهاية - كما لو ان صراعها كله كان من دون جدوى، لكن العبرة بالنسبة الى راسين لم تكن في النهاية التي تؤول إليها الأحداث، ولكن في الأبعاد السيكولوجية وفي السمات الأخلاقية، التي حرص على إضفائها على تلك البطلة. فالمهم، لدى راسين، ان فيدرا تدرك حقاً ما يحدث لها، وتقاوم. هي تعرف ان عاطفتها في طريقها الى ان تقودها نحو الدمار، لذلك تسعى جهدها الى التصدي، مدركة في الوقت نفسه ان ليس في يدها ان تحدث المعجزة، لكن في يدها ان تحاول تخفيف هذه المأساة. ومن هنا، وعلى عكس ما كان يحدث في الصيغ القديمة (الاغريقية) للعمل نفسه (ولدى سينيكا لاحقاً ايضاً) لم يعد هيبوليت محور العمل، ولم يعد هو الضحية التي تسقط بسبب شذوذ عواطف فيدرا وأهوائها، بل تصبح فيدرا هي الضحية، حتى ولو كانت اهواؤها هي بسبب ما يحدث. ذلك ان الصراع هنا - وكما هو الحال في «هاملت» شكسبير الذي كان دل إلى طريق البحث «الجواني» والصراعات الداخلية، بدلاً من الاكتفاء بتصوير الصراعات الخارجية والأحاسيس «البرانية» - الصراع هنا داخلي: بين فيدرا وعواطفها، بين وعيها وقدرها. ومن هنا اعتبرت فيدرا سلفاً لكثير من النساء اللواتي تفنّن المبدعون في تصوير صراعاتهن الداخلية خلال القرنين التاليين، وصولاً الى «آنا كارينينا» تولستوي و«إيما بوفاري» فلوبير. وهذا، في الطبع، ما يجعل فيدرا، كما صورها راسين، امرأة معاصرة، امرأة مصارعة، تنتصر في هزيمتها، وذلك في كل بساطة لأنها تعي صراعها وتعيشه مع ذاتها. وهنا، بالنسبة الى راسين، يكمن الأساس في إدراك حقيقة الصراع، حتى وإن لم يؤد هذا الإدراك الى الأهداف المنشودة. من ناحية الأحداث وتسلسلها والعلاقات بين الشخصيات، لا تختلف «فيدرا» راسين عن المسرحيات القديمة التي كتبت حول الموضوع نفسه. ما يختلف هو التفسير، وخصوصا الموقع الذي تحتله المرأة فيدرا نفسها في مسرى الأحداث وتوجهها، حتى وإن كان راسين آثر ان يخفف من شأن تلك المقدمات التي كان همها ان تعيد فيدرا الى أصولها الأسطورية، وأن تعيد الحكاية كلها الى تلك الأصول، وإلى جذور الصراعات بين آلهة الأولمب. المهم بالنسبة الى راسين كان إضفاء أكبر قدر من البعد الإنساني على هذه المرأة التي أوقعها سوء طالعها في هوى ابن زوجها، وراحت تسعى، لكي تصارع ذاتها ضد ذلك الهوى، لكن القدر يكون لها، دائماً بالمرصاد، حتى يودي بها الى النهاية. مسرحية «فيدرا» لراسين قدمت للمرة الأولى في اول ايام العام 1677 في «اوتيل بورغوني» في باريس. وكان ذلك التقديم تتويجاً لجهود عامين بذلهما راسين (وكان في الثامنة والثلاثين من عمره آنذاك) لاقتباس ذلك العمل عن يوريبيدس. والحال ان راسين كان امينا جدا، من حيث السمات الخارجية لنص سلفه اليوناني الكبير. لكنه كان في الوقت نفسه يعي مسؤولياته وقد بات واحداً من أكبر كتّاب زمنه، ناهيك بانضمامه الى القصر الملكي مستشاراً للملك ومؤرخاً في البلاط. وكان سبق له ان اعطى المسرح ثماني مآس، وهزلية واحدة. وكل تلك الأعمال كان رسخ مكانته وشجع متفرجيه وقراءه على سبر أغوار تلك الأعمال للبحث عما هو عصري فيها، وعما يحمل أفكاراً جديدة. والحال ان راسين عرف، كيف يحمّل «فيدرا» التي تظل دائما من افضل اعماله، ذلك الجديد، من دون ان يبتعد كثيراً من ملامح الأحداث كما رسمها يوريبيدس. ولكن فيما كانت مسرحية هذا الأخير تحمل عنوان «هيبوليت حامل التاج» مركزة الأحداث من حول شخصية الشاب/ الضحية، ها هو راسين يجعل من «فيدرا» العنصر الأساس. وفيدرا، لدى راسين - كما هي في الأساطير القديمة كلها - زوجة الملك تيزيوس، التي تعترف ذات يوم امام مربيتها اوينون التي تلح عليها في السؤال حول الأسباب الحقيقية لمرضها ووهنها وانشغال بالها، بأن السبب الحقيقي هو ذلك الحب المحرم والمجرم الذي تحمله للشاب هيبوليتوس، ابن زوجها من زوجته الأولى انيتوب. وتصارح فيدرا مربيتها بأن الحب لديها ولد خلال غياب زوجها. وسوف تدرك على الفور ان فيدرا هي هنا ايضاً بطلة اسطورية متحدرة من الشمس ابنة لمينوس وباسيفاي، أي انها مولودة من ام كان سبق لفينوس ان أوقعتها في حبائل الهوى ومأساته. ومن هنا فإن قدر فيدرا يبدو مرسوماً سلفاً: ليست هي من اختار الوقوع في الهوى. كل ما في الأمر انها تطيع قلبها وقدرها اللذين يدفعانها الى جريمة الحب المحرم. غير ان الأمور سرعان ما تبدو اكثر سهولة، إذ ترد الأخبار من خارج البلاد حيث سافر تيزيوس في حملة، بأن الملك مات. وهنا تنصح المربية فيدرا بأن تستدعي هيبوليت وتصارحه بحبها. طالما ان «العقبة الكأداء في وجه ذلك الحب قد زالت». فتفعل فيدرا وهي كالمنوّمة مغناطيسياً. لكن هيبوليت لا يستجيب ابداً لهوى زوجة ابيه بل يصدها باحتقار وغضب. بعد ذلك يعود تيزيوس ويتبين لنا ان خبر موته كان عارياً عن الصحة. وما ان تعلم المربية بذلك حتى يصيبها الهلع من ان يسرع هيبوليت بإخبار أبيه بمراودة فيدرا له عن نفسه، وتطلب من الملكة الإذن بأن تتصرف بسرعة. وإذ تأذن لها فيدرا بذلك، تتوجه الى الملك لتخبره بأن ابنه الحبيب هيبوليت قد سعى الى إيقاع زوجة ابيه في حبائل حب محرم. وإذ يدعو الأب، غاضباً، ابنه الى مجابهته، ينكر هذا كل ما روته المربية، بل يزيد بأنه إنما يحب الأميرة الأثينية الحسناء آريسيا. غير ان دفاع هيبوليت عن نفسه لا يقنع الأب، فيدعو على ابنه بالحرمان، ثم يطلب من الإله نبتون الذي كان وعده بتحقيق ثلاث امنيات له، بأن يقتص له من ابنه، تحقيقاً لواحدة من الأمنيات، ويستجيب نبتون لذلك معاقباً الشاب. وهناك تقرر فيدرا ان تفصح عن كل شيء، حفظاً للشاب وتكفيراً عن ذنبها، لكنها حين تعلم أنه حدّث أباه عن غرامه بالأميرة آريسيا، تستبد بها غيرة مفاجئة، وتقرر السكوت عن كل شيء، تاركة هيبوليت لمصيره (وهنا في هذا الصمت تكمن جريمة فيدرا الكبرى بحسب راسين). وتكون النتيجة ان يحقق نبتون ما وعد به الملك الأب، ويموت هيبوليت. وأمام هول ما يحدث تسمم فيدرا نفسها طالبة الموت، لكنها وهي تلفظ انفاسها الأخيرة تعترف امام زوجها الملك بكل شيء، فيفجع الملك امام اعترافها، ويقرر ان يكرم ذكرى ابنه البريء عبر تبنيه حبيبته آريسيا. بالنسبة الى جان راسين (1639- 1699) كانت غايته من هذه المسرحية ان يعبّر عن «الفضيلة» في اعتى ما تتعرض له. ففي نهاية الأمر من الواضح ان الصورة التي رسمها راسين لفيدرا انما هي صورة امرأة تركض هرباً من قدرها وسعياً الى الفضيلة، وذلك عبر كم هائل من الصراعات تعيشها في داخلها. ومن المؤكد ان فيدرا، إذ تعترف امام الملك، في النهاية، بحقيقة ما حدث، انما تسعى الى تطهير نفسها وتحقيق الهروب الأخير من قدرها: الهروب نحو الموت هذه المرة. ذلك انها تعرف ان قدراً من هذا النوع لا يمكن الانتصار عليه إلا بالموت. ومن هنا فإن فيدرا التي هزمت دائماً، حققت في موتها انتصارها الأخير، ذلك الانتصار الذي عجزت فضيلتها عن ايصالها إليه في حياتها. [email protected]