«قناديل زيتها أغنية» عنوان مجلد يضم خمسة مجاميع قصصية للقاص السعودي أحمد القاضي، صدر عن الدار العربية للعلوم. لكني لم أجد بين القصص قصة بالعنوان الذي حمله المجلد. أن يختار الكاتب عنواناً مستقلاً ولا يمت إلى عناوين المجموعات الخمس بصلة. أو عناوين نصوصها، مفضلاً عنواناً جامعاً لها. وإن كانت عبارة «وقصص أخرى» تقودنا إلى الروح المشاكسة للكاتب. وهي ما تجلت في الكثير من نصوصه السردية التي يشعر القارئ بأنها كائنات مرحة في أثواب نصوص سردية. تلك النصوص التي سكبها الكاتب بلغة شعرية مكثفة، مؤثثاً عباراتها بصور غاية في الروعة. ناهلاً من بيئته شخصيات قريبة وحميمة إلى القارئ، مستخدماً وصف ضبابي لمحيط شخصياته، تاركاً للقارئ تكملة ما يراه مكملاً لتلك المشاهد النابضة بالحياة. «طبعت المجاميع القصصية الأولى والثانية والثالثة بدار أزمنة. الأعوام: 2001، 2006، 2011. «هذا ما جاء على الصفحة الخامسة. ويعني بالثلاث المجاميع: الريح وظلال الأشياء. ما لم أقله.هنا وقعنا هنا أحسن. أما المجاميع: صوت المرأة يئن. ولست وحدك. فقد كتبها بين عامي 2012 و2014. أي أن ما بين جناحي «قناديل زيتها أغنية» تحتوي على تجربة الكاتب لما يساوي عقد ونصف العقد. وهي فكرة رائعة أن تجمع نصوص تجربته في كتاب واحد. ليستمر بعد ذلك في طريق الإبداع بنفس جديد مستفيداً مما أجترحته حروفه على صفحة الخيال منذ بدايته وحتى آخر قصة في هذا الكتاب. وللقارئ والباحث أن يحلقا في أفق باتع من تجربة كاتب قدمها بشجاعة من دون أن يتوقف على إلحاق خياله فيما سيأتي من إبداع. الإهداء: «هدى.. لأنك بجانبي أستحق البقاء. سيلين.. طيرت عقلي بحبك المستفز. سأكون ظلالاً في حضرتكم. وستكونون ظلاً في اختفائي». نص قابل لأكثر من قراءة. والسطر الأخير أكثر إبداعاً.. حين يكون ظلالاً ويكونان ظلاً. عناوين المجاميع: صوت المرآة يئن! هنا وقعنا هنا أحسن! ما لم أقله! لست وحدك. الريح وظل الأشياء. جميعها يبعث على التعجب. وجميعها صور تدفع بالخيال إلى استحضارها. وجميعها كما هو العنوان العام للمجموعة.. تقترب من فن نصوص الشذرة. أو الومضة. تلك عناوين المجموعات الخمس التي ضمها الكتاب. عناوين النصوص: في مجموعها تقارب المائة. توزعت كما يلي: المكونة من مفردة واحدة 27 عنواناً. مفردتين 39 عنواناً.. ثلاث مفردات 20 عنواناً. أربع مفردات 10 عناوين. وخمس مفردات عنوان واحد.. وعنوان واحد من ست مفردات. وإذا عرفنا بأن أهم عتبات النص أو الكتاب هو العنوان. وأن معظم الكتاب عادة ما يقفون حيارى أمام «أي عنوان يناسب النص أو المجموعة؟» وكثيراً ما يستبدل العنوان لأكثر من مرة.. وهناك من يستعين بأصدقاء على اختيار العنوان. بل إن كثيراً من الكتاب يظل غير راضٍ عن أحد عناوينه حتى بعد النشر. ما وددت قوله إن ذلك الكم من العناوين في مجموعة القاضي. تظهر لنا قدرته على الاختيار المناسب. وحصرنا لمفردات العناوين يعطي القارئ فكرة أن معظمها لم يتجاوز المفردتين. والثلاث إلا في 10 عناوين. وذلك لرغبة الكاتب في التكثيف الذي انتهجه في صياغة نصوصه وانعكس على عناوينه، للوصول إلى ما يعبر عن النص، وما يدهش القارئ ويثير إعجابه. فمن منا لم يقتنِ كتاباً لعنوانه. ثم يكتشف بأن العنوان مخادع.. إذ استخدم كمصيدة. أو شرك لخداع، وفي بعض الإصدارات نجد أن العنوان في وادٍ وما يحمله المتن في وادٍ آخر. أو أني يكون العنوان جاذباً، وما بين دفتي الكتاب ثرثرة وكلام لا يرتقي إلى ما ذهب إليه عنوانه. أما في حالتنا هذه فقد تنوعت تجربة الكاتب حتى في مستويات تطابق تلك العناوين بما يتضمنه النص. وأجزم بأن الكاتب قدم لنا في مجمل تلك العناوين ما يبعث على التساؤل. وحين نلج النص نجد أنها الأخرى تدعونا لمزيد من التساؤل. وهذا هو الإبداع الحق. إذ إن النص امتداد للعنوان. وذلك النص يحمل ما يحرك العقل. فالقارئ ليس بحاجة إلى أجوبة. وذلك الأسلوب التقليدي للقصة: البداية الوسط «العقدة» ثم النهاية المفرحة أو الإجابة بتسليط الضوء على ما يود معرفته القارئ. أو أن يهديه نهاية سعيدة. إذاً تلك العناوين التي تكونت بين المفردة والمفردتين مروراً إلى الست مفردات. لم تأتِ إلا كبداية لما يمكن أن يثيره النص من أسئلة. داعياً القارئ كشريك ليس للمتعة فقط، بل إلى عصف ذهني، وإلى التأمل والمشاركة في المزيد من الأسئلة. أكتفي بالقليل من الكلمات حول عتبات هذه المجموعة السردية التي استفزتني لكي أقاربها، وأختتم هذا بأسطر قليلة حول نهايات نصوصها. وقد لاحظت ما شدني. إذ إن جل نصوص القاضي تتكون من جزأين. أو كتلتين. وهي البداية والنهاية. قد نجد هناك منتصفاً. لكنه يتماهى بين البداية والنهاية. وبهذا تجاوز بنا الكاتب من القص التقليدي إلى السرد الجديد. ولذلك فنهايات نصوص «قناديل زيتها أغنية» نهايات مدهشة. «قال لي: الظل سيغمرك فلا تأته.. أنت فقط من تزيل التراب عن قدميك.عندما يغمرك الظل سيغمرك التراب» من نهاية نص «شعر يلعب بالريح» ومن نص آخر بعنوان «جفاف» نقتص «أسمعه ينطقها.. لم أعد أره.. عشت بقية حياتي أحذر من نطقها.. وأكتبها في أربعة أحرف (ح ر ي ة)» «تبسمتْ. ولم أزد على استرجاع الشريط الماضي، تلك العجوز لم تشأ أن يتوارث أي شيء سوى البسمة»، آخر جملة من نص «كل عجوز حكيم»، ثم نهاية أخرى لنص بعنوان «يمتصني وينفثني» ونهاية النص «أنا عقب سيجارة. يمتصني الليل وحيداً. ينفثني في سموات بعيدة. أسقط تحت قدم كبيرة بكل قوة تمعن في الصاقي بالإسفلت علني أصبح مطباً صناعياً للعربة المقدسة» ومن نص آخر بعنوان: «ثلاث احتمالات لتفاحة» ونصه «أرجوك اغمضني بألم وتبجيل. فأنا تأوهات شجرة..تخيل هذا الركام من الليالي الفارغة منك. أخلص عالمك لألمي لقد تركتني أغمض اللحظات داخلي.. فتسيل حسرة وبكاء..». تلك نماذج لخواتم بعض النصوص القصصية. قد يرى قارئ في بعضها نصوصاً سردية مكتملة. ويرى آخر مقاطع شعرية يشوبها الغموض. ويلاحظ ثالث أن الكاتب في جل نصوص مجموعته يدعو القارئ ليرافقه منذ السطر الأول كمن يُمنيه بما هو أروع. وبالفعل يسير بها حتى يسلمه إلى نهاية مدهشة. القاضي كاتب النهايات الفارقة. أو أن نهاياته تختزل المنتصف لتنوب عن نفسها وعنه. وبذلك يخط بصمته في كتابة النص الجديد الذي يكرس إلغاء المنتصف «العقدة» لتحل النهاية كمرتكز ثانٍ بعد البداية. وهذا أسلوب جديد.