في رحلة الباص الباكرة من باريس إلى كاليه، يدقق السائق الخمسيني بحجوزات الجالسين على المقاعد، وهو يسأل بحشرية عن جوازات سفرهم، طالباً من بعضهم النزول. يصل الباص بعد ساعات إلى محطة «سيتي دي أوروب»، وسط كاليه، عابراً مزارع البقر وسهول الشمال الفرنسي. وفي وقت اشتداد حرارة الشمس، يتسلل برمبر، الشاب الكردي، بخوف إلى أرض مسيجة، حاملاً بعض الطعام وعبوات الماء، من مركز المدينة التجاري. حيث يعيش في خيمة نصبها مع شقيقه و4 من رفاقه وسطها. منتظرين بخيبة، الوقت المناسب لعبور الحدود إلى بريطانيا، على رغم وفاة شخصين (سوداني وإثيوبي) منذ أيام تحت عربة القطار، ومقتل كثر في محاولتهم التسلل عبر نفق بحر المانش، على رغم الإجراءات المشددة من قبل الشركة المشغلة للنفق «يورو تانل»، التي طالبت السلطتين الفرنسية والبريطانية التعويض لنفقاتها على الهجرة غير الشرعية ب9,7 مليون يورو. برمبر واحد من 3 آلاف مهاجر يستوطنون المساحات الخضراء الكثيفة القريبة من بريطانيا. وبعد مشي ربع ساعة من مكان خيمته الصغيرة، مستمعاً إلى أغانٍ يبثها هاتفه يصل إلى الطريق السريع. يروي الشاب عن رحلة العذاب التي تكبدها مع رفاقه بعد مغادرتهم حلبجة في السادس من آب (أغسطس)، عابراً من تركياً إلى بلغاريا وصربيا وهنغاريا والنمسا وإيطاليا ووصولاً إلى هنا في ظروف صعبة: «رأينا الموت. لكن هنا الوضع ليس سهلاً. نعيش في ذل ولا نعرف ما هو مصيرنا وقلة تعرف بوجودنا». يزور برمبر يومياً أصدقاء له هربوا من كوباني، في مخيم مخفي خلف الشجر، بات يطلق عليه ناشطون إنسانيون من أوروبا «مخيم السلام»، ويسميه اللاجئون المتذررون في خيمه البالية وبيوته الخشبية الضيقة المستنبتة على عجل ب»الجنغل». يتكفل الشاب الذي قاتل في صفوف «البيشمركة» مدة عامين قبل هروبه، مرافقتنا على طريق طويل محاذ للغابة. تتوزع على أطرافه بيوت فخمة. تتألف من طبقتين تسورها حدائق صغيرة، يقول: «هؤلاء أصحاب المنازل قدموا عريضة إلى البلدية يطالبون بترحيلنا. يخافون أن نسرق بيوتهم. هؤلاء لا يعلمون أننا لا نريد البقاء على أراضيهم ولا في الغابة المقفرة. نريد العبور إلى بريطانيا فقط. لدي شقيق هناك وينتظر نجاحنا في القدوم إليه». يضم المخيم لاجئين من جنسيات مختلفة. آتين من بلدان تبددها الحروب وينهشها الفقر، وأكثرهم من السودان وإثيوبيا وأفغانستان. ينام بعضهم في العراء. يتوزع بعضهم الآخر في خيم من القماش وأخرى مخصصة لسهرات التخييم الموقتة منذ أشهر في قلب الغابة. حيث تفضل عائلات عربية، من سورية ومصر والعراق، التجمع قرب بعضها البعض. فيما يتعايش الأفغان والسودانيون والإريتريون والإثيوبيون والإيرانيون وأبناء جنوب أفريقيا، وقسم من «البدون»، في خيم متقاربة. تفصل الخيم باحة، يتمركز فيها دكان «عبدو الأفغاني»، الذي يبيع علب السردين والرز والزيت ولفائف السجائر متفرقة، وتحيطه 7 أكشاك رثة، تبيع أطعمة محلية من باكستان وإثيوبيا وأخرى تابعة لقبائل البشتون، وبار وحيد يبيع الكحول تديره فتاة إثيوبية. وأقيمت في المخيم 4 مساجد صغيرة، وكنيسة واحدة، يؤمها المصلون. تهتم بالكنيسة امرأة ستينية من الحبشة، تقول ببضع كلمات إنكليزية، «نحن نحتاج إلى الصلاة هنا في الغابة»، وتضيف بصوت مقعر، وهي تساعد طفلاً في ارتداء كنزة صوفية قدمتها جمعية فرنسية لأطفال المخيم، «لن نترك وحيدين أبداً. الله معنا». يقول أبومو الآتي من السودان، أن لديهم في مخيمهم الأكبر نسبياً للسودانيين، مسجدين يقيمان فيهما الصلوات الخمسة. «هنا أكثرية اللاجئين من المسلمين. توجد أقلية مسيحية من السودان يتجاورون مع مهاجرين من إريتريا وإثيوبيا». أبومو الذي لا يتجاوز عمره ال20 سنة، متزوج ولديه طفل اسمه محمد. ترك عائلته في «كلكل» (شمال دارفور)، وتوجه في قارب مع 180 شخصاً عبر ليبيا. وصلوا إلى جزيرة صقلية، وبقوا في معسكر للاجئين، حيث اهتمت بهم فرق من الصليب الأحمر الدولي، ونقلتهم إلى ميلانو. في ميلانو خيرتهم المنظمة إما البقاء أو استكمال رحلاتهم. انتقل أبومو مع مجموعة كبيرة عبر القطار إلى فرنسا. مات رفيقان له في محاولة تسلل عبر السلك إلى بريطانيا، «لم أجرب بعد تجاوز الحدود. هناك تشديد في إغلاق المنافذ. والموت يحيطنا. ننتظر هنا إلى حين أن يجدوا حلاً لنا. يقولون انهم سيوزعوننا على دول أوروبا». يعمل أبومو متطوعاً مع منظمة «مادسين دي موند» (أطباء العالم)، التي تنشط منذ شهرين في إسعاف المهاجرين، وتقدم لهم خدمات طبية وتأخذهم إلى المستشفيات الحكومية للعلاج. لا سيما أن المخيم لا تتوافر فيه أي عيادة أو مستوصف، ويعاني أكثر من 370 شخصاً، وفق تصريح مصدر طبي في المنظمة ل»الحياة»، رفض ذكر اسمه، من كسور ورضوض وحالات اختناق اثر تعرضهم لحوادث في رحلاتهم أو بسبب تعرض الشرطة وحرس الحدود لهم. حيث أفاد لاجئ عراقي قادم من محافظة ديالى أن «الشرطة الفرنسية واجهتهم فور دخولهم بغاز تسبب لهم في غيبوبة لنصف ساعة». القمع والموت اللذان لم يؤديا فعلياً إلى تراجع في تدفق المهاجرين غير الشرعيين، تواجههما الحكومة الفرنسية في خطوات جدية أولية، مستبعدة الحل الأمني، حيث ستعمل وبتمويل من الاتحاد الأوروبي على تحويل الخيم إلى «كامب» محدود النطاق، يوفر العناية الإنسانية لهم. بعد وعود أطلقها رئيس الوزراء الفرنسي مانويل فالس في زيارته الميدانية الأسبوع الماضي، وإلى حين إيجاد حل نهائي لهذه الأزمة المتنامية منذ شهر تموز (يوليو)، بالتوافق مع دول الجوار الأوروبي، بعد أن طالبت المستشارة الألمانية انغيلا مركل دول الاتحاد بالسماح للمهاجرين بالعبور، للتخفيف من مخاطر الموت التي يواجهونها. في الجولة، يقف العشرات من الشبان السودانيين ينتظرون دورهم لأخذ وجبات طعام تكفل بعض سكان كاليه شراءها لهم، خصوصاً أن الحكومة الفرنسية تقدم وجبة واحدة في اليوم عند الخامسة عصراً. يقول عثمان علي، القادم من دارفور، إنهم منسيون هنا في سجن واسع اسمه الغابة، «أشعر أننا منبوذون»، يقول وهو يقضم سندويشاً من الجبنة، ويضيف: «الحياة صعبة في الجنغل. ننام في خيم صغيرة. وليس لدينا أي أدوات للتدفئة. نشعل النار مستخدمين الحطب. عائلتي لا تزال في السودان. جئت إلى هنا لأني أريد إنقاذهم من الحرب». وسط المخيم، يتجمع بعض اللاجئين حول مكبري صوت أحضرهما دومينيك ميغار وزوجته (من سكان كاليه)، للرقص على أغنية شعبية أفغانية. فيما يقرفص البعض لوضع هواتفهم قرب شواحن صغيرة، عمل ميغار على تزويدهم بها مع مولدات كهربائية ومد لهم خط إنترنت للتواصل مع أقاربهم عبر «فايبر» أو «فايسبوك». حصل بشر، وهو شاب أفغاني من «البشتون»، على ساعات من فتاة نروجية، قدمت مع رفاقها إلى المخيم. أحضر الشبان طعاماً وأدوات حلاقة وفرشاً». يقول بشر إنه مسرور بها، فهو يحب الاستماع إلى الأغاني والمشي. «أتسلى في وقتي وأمشي بين الخيم وأنا أدندن الأغاني». بشر البالغ من العمر 17 سنة، هرب مع عائلته إلى المخيم منذ 4 أشهر، «أحب أوروبا. لكننا عالقون هنا». فتح أحد معارف بشر كشكاً صغيراً، أسماه «البيت الأفغاني». يبيع فيه الكبسة الأفغانية، وحوّل فسحة جانبية منه إلى مقهى ضيق. يتقاسم مساحتها رواد يبددون وقتهم في رشف فناجين الشاي، أو العزف على قيثارة فارسية تقليدية. يقول بشر إنه يقضي وقته في المقهى أحياناً، «لا شيء يمكننا فعله. نقضي الوقت في الانتظار. في الحقيقة لا يهمني أن ننتقل الآن أو أن تطول إقامتنا في المخيم. المهم أني لست في أفغانستان». كلام بشر مطابق لأحاديث معظم من التقينا بهم في المخيم. حسين الحسن، أحد هؤلاء الذين وصلوا منذ أيام بعد رحلة شاقة مشياً على الأقدام إلى الغابة. هرب حسين من منطقة منبج الواقعة في ريف إدلب (سورية)، وانتقل مع رفاقه من تركيا عبر قارب مطاط (البلم كما يسمونه)، إلى اليونان. وصل هؤلاء إلى جزيرة كوس، وبقوا يوماً كاملاً يبحثون عن مكتب الشرطة، التي زودتهم بخرائط ورقية لمعرفة طريقهم إلى قلب القارة العجوز. خرج هؤلاء إلى مقدونيا وعبروا إلى صربيا وهنغاريا ووصلوا إلى ألمانيا، بقي بعضهم فيها، إلا أن حسين غادر مع بعض أقاربه إلى فرنسا، «لا أريد اللجوء في ألمانيا. لدي ابن عم في بريطانيا وسيساعدني في العيش لديه. اللجوء في بريطانيا أفضل». يقضي حسين وقته في خيمة كبيرة تضم سوريين هاربين من حمص وريف حلب، وبعضهم جاء من الرقة. يقول حسين إن هناك 70 عائلة سورية في المخيم، وشبان كثر جاؤوا وحدهم من دون عائلاتهم. تطبخ أم محمد في الخيمة للشبان، الذين يتقاسمون شراء عدة «الطبخة» من «سوبرماركت» تبعد أكثر من ساعتين عن الغابة. تقول السيدة التي نجت مرتين من الموت إنها ترغب في انتهاء هذه الرحلة، «تعبنا. وإذا لم نسمع بحلول قريبة فربما سنعود. كدت أغرق في طريقنا إلى اليونان، وأسقط في عبورنا جبال مقدونيا». تتقاسم أم محمد مع عائلتين خيمة متوسطة الحجم، أعطتها لهم سيدة من كاليه، حيث أن بعض سكان المدينة جاؤوا إليهم واستطلعوا أحوالهم، فيما يرفض بعضهم وجود هؤلاء قرب بيوتهم، ويصرخون في وجوههم ويطلبون منها الابتعاد. تقول ماري آفارلان، إحدى سكان المدينة إن «على الدولة أن تجد حلاً سريعاً لهذه الأزمة»، متخوفة من توسع هؤلاء إلى داخل المدينة، «بدأنا نسمع عن حالات سرقة متفرقة يقومون بها. الناس خائفة من تدهور الوضع. والناس تتجنب الاحتكاك بهم». الحال ينسحب على بعض السكان، لكن البعض الآخر، يعترف أن هؤلاء يحتاجون إلى مساعدة حقيقية. صوفي، إحدى العاملات في مطعم «بوفيه دو لا غار»، تقول إن هؤلاء يجب معاملتهم معاملة إنسانية وبطريقة مستعجلة. اقرأ في صحيفة «لا فوا دو نورد»، تقارير عن أحوالهم، أعتقد أنه علينا مساعدتهم. إنهم في مأزق حقيقي». ينتهي النهار في كاليه بشكل عادي. إلا أن قاطني الغابة القريبة من النفق والطريق السريع والمرفأ، عيونهم موجهة إلى بريطانيا، التي ترفض كلياً عبور أي أحد منهم إليها. وهم يعيشون أيامهم بانتظار ثقيل، «المهم أن لا نموت في الغابة»، يقول أبومو وهو يبتسم.