تبدو ظاهرة «التكفير»، على ابتذالها وشيوعها، حاضرة بقوة لدى الجماعات الإسلامية، ولا سيما «الجهادية» منها، أو التي تعتمد السلاح وسيلة وحيدة في إدارة الحوار مع مخالفيها، وحتى شريحة من مؤيديها في بعض الأحيان. ولئن اتفق أغلب علماء الإسلام بكلّ توجّهاتهم على تحريم تكفير «أهل القبلة» مهما كانت الأسباب والمبررات، فإن ثقافة التكفير لا تزال حاضرة بقوة وعنف عند شريحة لا يستهان بها من المسلمين، وبخاصة من فئة الشباب. تعد قضية الكفر والإيمان من أعقد قضايا الفكر الإسلامي وأرسخها في الذاكرة الجمعية لكلّ مجموعة من مجموعات المنظومة الإسلامية. والمتتبّع لمقولة «الكفر والإيمان» في كتب الملل والنحل والفرق وعلم الكلام والخلافيات والجدل والفقه، يلاحظ أنّ مقالات القدامى في هذه المسألة ارتبطت بقضيتين محوريتين تتعلّقان بمسألة الانتماء إلى الجماعة ومسألة المصير الموعود بما هو جزاء يلقاه العبد يوم الحساب. ولكن السؤال يظل: هل يمكن الحديث عن مفهوم موحّد للجماعة؟ وكيف يتحدّد الانتماء إليها؟ وما دلالات احتكار إحدى المجموعات الإسلاميّة للسنّة والجماعة (أو لأهل البيت) واعتمادها اسماً لها لا سيما أنّ كلّ المسلمين من دون استثناء يعتمدون السنّة أصلاً تشريعياً، ويجلّون أهل البيت لارتباطهم بشخص الرّسول؟ ما نجده عند أغلب علماء المسلمين اليوم من رفض قطعيّ لتكفير أهل القبلة، وما نلاحظه من انزياح خطير لدلالات الكفر وتوجيه مخصوص لمعانيها بعد رحابة الأفق وتحرّر المجال يجعلاننا نقرّ بأن البدعة الوحيدة التي اكتسبت كل شروط الابتداع السلبي هي «بدعة التكفير». لكن السؤال الملحّ يتعلق بتاريخية ظهور هذه «البدعة» وكيفية تطوّرها والأسباب الكامنة وراء إحداثها وانتشارها وترسّخها في الذاكرة وتحوّلها بموجب ذلك إلى أصل من الأصول وركن من أركان الدّين لا يقبل التشكّك أو المراجعة. أغلب الباحثين اليوم، بمن في ذلك دعاة التقريب والمشاركين في مؤتمراتهم يؤكدون ربط ظهور «بدعة التكفير» بمقولات «الخوارج» لأنّهم خرجوا عن الملّة ثمّ أخرجوا غيرهم منها. لكن حصر بدايات التكفير في مقالات الخوارج تبسيط لمسألة بالغة في التعقيد وهروب من إجابة على سؤال يخص كل طرف من أطراف المشهد الإسلامي. المدقّق في السيرة النبوية يلاحظ تأكيد الرسول (عليه الصلاة والسلام) على احترام المسلم لأخيه المسلم وعدم التورّط في قتله وإخراجه عنوة من دار الإسلام بدافع الحماسة المفرطة أو الوصاية العمياء. ولنا في قصة أسامة بن زيد خير مثال على ذلك، إذ وجّه له الرسول نقداً لاذعاً لأنه «قتل رجلاً شهر عليه سيفه، فقال لا إله إلا الله» بحجة أنه «قالها تعويذاً من السيف»، فأجابه: «هلا شققت عن قلبه؟» وردد مرات عدة «من لك يا أسامة بلا إله إلاّ الله» إلى درجة أعلن فيها أسامة «وددت أنّ ما مضى من إسلامي لم يكن». وإذا اعتبرنا تكفير المسلم المخالف إخراجاً له جزئياً أو كلياً عن الملّة، فإن جذور هذا الإجراء تعود إلى ما حدث بعد وفاة الرسول الكريم من فراغ سياسي كبير أدى إلى مجموعة من الاضطرابات كما هي حال حركة مانعي الزكاة أو ما عرفوا ب «المرتدين عن الإسلام» باعتبار أن «من أخلّ بجزء من الإسلام أخلّ بكلّه» على حد تعبير الخليفة الراشدي الأول. وينتج من هذا المنطق الذي أسسه الخليفة أبو بكر الصديق اعتبار مانعي الزكاة كفاراً وتستحلّ تبعاً لذلك أموالهم ودماؤهم. والحال أن ما تسمى حروب الردة كانت حروباً عسكرية بكل معنى الكلمة، أكثر منها دينية أو تأويلية، كما يحلو لكثير من الدعاة تأويلها وتأويل النصوص المبررة لقتل من امتنع من القبائل العربية عن أداء الزكاة، ومنهم من امتنع من أداء الصلاة أيضاً لكنه لم يؤبه له في تسمية تلك الحروب على رغم أهمية وأولوية الصلاة على الزكاة، فحالة الردة كانت سياسية وعسكرية من القبائل التي دخلت في الإسلام وقبلت الحكم النبوي في عام الوفود، فكان خروجها من الإسلام سياسياً، كما كان دخول قادتها ومعظم أفرادها سياسياً خوفاً من قوة المسلمين ودولتهم المتكونة في المدينةالمنورة. إنّ ما نلاحظه اليوم من خطابات إسلامية تنزع نحو الإقصاء والتكفير المعلن والضمني يرجع إلى قلب سلّم الأولويات وتبجيل المهمّ على الأهم وتقديم الفروع على الأصول وأصبحنا نسمع بشطحات تكفير غريبة وعجيبة مستغلين حديث «كل بدعة ضلالة»، لصب سوط التكفير على كل جديد قد يقوم به الناس في حياتهم، وإن كان لا صلة له بالدين وأركانه ومسلماته، بل لربما كان مما يساهم في نشر الدعوة الإسلامية وتعزيز أركانها ومشروعيتها. إن مصطلحي الكفر والإيمان وما دار حولهما من سجالات وخلافات انعكس تالياً على ذيوع ظاهرة التكفير وتغليبها على مشروع الإسلام الرئيسي في إعمال العقل والتفكير، المستند إلى القراءة والتنوير، ومحاولات أنصار «بدعة التكفير» الاستناد إلى حوادث تاريخية لتبرير أفعالهم ما هي إلا محاولة لليّ عنق النصوص والحوادث التاريخية لتبرير الاستمرار في إقصاء المخالفين... وتشريع القتل تحت عنوان احتكار الحق والحقيقة!