لايزال الحديث موصولاً في ذكر الأصول المهمة في الكفر وقد مضى أصلان مهمان معتبران هما أولا: الكفر حكم شركي محض. والثاني أن الكفر والإيمان لهما شعب كثيرة متفاوتة في الايمان والكفر تفاوتاً عظيماً له أثره في الحكم. إن الكفر نوعان كفر أكبر مخرج عن الملة، ويحبط العمل وموجب للخلود في النار لا يغفر لصاحبه وينفي عن صاحبه اسم الإيمان أصلاً وكمالاً كالسحر وسب الله أو دينه أو الإعراض عن رسول الله.. وكفر أصغر لا يخرج من الملة ولا يحبط العمل ولا يوجب الخلود في النار، وهو تحت مشيئة الله في مغفرته، ولا ينافي أصل الإيمان، بل ينافي كماله وحكمه حكم الكبائر من الذنوب.. كالنياحة والطعن في الأحساب وسباب المسلم وقتاله. الخ. كما أن الشرك والظلم والفسق والجهل والنفاق نوعان أكبر وأصغر. هذا الأمر مشهور ومعروف بين العلماء قد تواردوا عليه ولا أظن ذا علم ينكره أو يتطرق اليه شك فيه. ومضى في النقل السابق عن ابن القيم في كتابه الصلاة ما يؤيده. أن هناك علاقة بين الكفر والشرك وهي علاقة عموم وخصوص فكل شرك كفر وليس كل كفر شركاً. فالذبح لغير الله والنذر له والخوف منه خوف عبادة شرك مع الله في تلك العبادات وهو كفر أكبر مخرج عن الملة ومناقض للإيمان. أما سب الله ورسوله ودينه أو الاستخفاف بشرعه أو بالمصحف ونحو ذلك فهو كفر مخرج عن الملة ولا يعد شركا في الاصطلاح. وكذلك الأعراض والاستكبار أو الشك والارتياب فهو كفر أكبر ولا يُسمى شركاً. إن الكفر ورد في موارده المعتبرة في نصوص الوحيين الشريفين كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. إن أهل السنة والجماعة يعظمون لفظ التكفير جدا، ويجعلونه حقا لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم فقط لا يجوز ولا يسوغ عندهم تكفير أحد إلا من كفره الله أو كفره رسوله. ولذا يقول الطحاوي في عقيدته المتلقاة بالقبول ولا نكفر احدا من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله.. ولا نقول لا يعني مع الإيمان ذنب لمن عمله". وكذا قرره ابن تيمية، في عقيدته الواسطية المتلقاة بالقبول حيث يقول: ومن أصول أهل السنة ان الايمان قول وعمل، قول القلب واللسان وعمل القلب واللسان والجوارح، وان الايمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية. وهم مع ذلك لا يكفرون أهل القبلة بمطلق المعاصي والكبائر، كما يفعله الخوارج بل الاخوة الايمانية ثابتة من المعاصي، إلى آخر الفصل. وإنما أهل البدع والأهواء هم الذين شعارهم تكفير من خالفهم فضلا عن لمزهم وتعبيرهم ولذا يقول رحمه الله في "الكيلانية" 466/12."وليس لأحد أن يكفر أحدا من المسلمين وان اخطأ وغلط حتى تقام عليه الحجة وتبين له المحجة، ومن ثبت اسلامه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشك بل لا يزول إلا بعد اقامة الحجة وازالة الشبهة". واما تكفير قائل هذا القول فهو مبني على أصل لابد من التنبيه عليه بسبب عدم ضبطه اضطربت الأمة اضطرابا كثيرا في تكفير أهل البدع.. كما اضطربوا قديما وحديثا في سلب الايمان عن أهل الفجور والكبائر.. وصار كثير من أهل البدع مثل الخوارج والروافض والقدرية والجهمية يعتقدون اعتقادا هو ضلال، يرون كفر من خالفهم في ذلك، فيصير منهم شر قوي من أهل الكتاب في كفرهم بالحق وظلمهم للخلق ولعل أكثر هؤلاء المكفرين يكفر ب "المقالة" التي لا تفهم حقيقتها ولا تعرف حجتها". وبازاء هؤلاء الكفر بالباطل أقوام لا يعرفون اعتقاد أهل السنة والجماعة كما يجب او يعرفون بعضه ويجهلون بعضه وما عرفوه منه لا يبينونه للناس بل يكتمونه ولا ينهون عن البدع المخالفة للكتاب والسنة ولا يذمون أهل البدع ويعاقبونهم بل لعلهم يذمون الكلام في السنة وأصول الدين ذماً مطلقا، لا يفرقون فيه بين ما دل عليه الكتاب والسنة والاجماع وما يقوله أهل البدع والفرقة.. أو يقرون الجميع على مناهجهم المختلفة كما يقر العلماء في مواضع الاجتهاد التي تسوغ النزاع وهذه طريقة قد تغلب على كثير من المرجفة وبعض المتفقهة والمتصوفة والمتفلسفة، كما تغلب الأولى على كثير من أهل الهراء والكلام، وكلا هاتين الطريقتين منحرفة خارجة عن الكتاب والسنة.. ويرحمه الله فانه بهذا القول وهذا التقرير والتوصيل كأنه يعيش معنا بين اظهرنا فان هذه الطوائف وهاتيك المقالات المتعارضة لا تزال تطرح وتذاع ويدعى لها إما جهلاً والمقصود ان المبتدعة على تنوع مشاربهم وتباين أصولهم ومناهجهم يروج عندهم تكفير مخالفيهم عند أدنى مخالفة.. في حين يتحرج أهل السنة والجماعة من تكفير المخالف حرجا شديدا، لأن التكفير حكم شرعي، وهو حق لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وهو خطب في الاثم دنيا وعاقبة ولذا فهم لا يؤاخذون بلوازم الأقوال، في التكفير حتى يكون الكفر صريحا لا لبس فيه كما لا يعولون في التكفير على الظنون والأوهام والأهواء، وإنما العدل عليه الأمر الذي لهم .. الله سلطان وحجة ظاهرة وبرهان. إن أهل السنة والجماعة يفرقون بين الكفر المطلق والكفر المعين ثم القطع الكافر المعين بالنار فهذه ثلاث مراحل بينها فرق عظيم ومؤثر في العلم والتطبيق. فإنهم يقرون الكفر الأكبر غير معنيين ثم لهم شروط وضوابط وتورع في ايقاع الكفر الأكبر على المعين فلابد من تكفير المعين من اجتماع الشروط فيه وانتفاء الموانع عنه.. ثم هم إذا حكموا على المعين بالكفر الأكبر المخرج من الملة والتفسير فانهم يوقعون عليه الدنيا أما حكمه في الآخرة فلا يجوز ان يكون خالداً مخلدا في النار ولقد اعتنى بهذه المسألة تفصيلا اثر الدعوة السلفية المعاصرة من الشيخ محمد بن عبدالوهاب من ابنائه وتلاميذهم حيث أجلوها وحققوها تحقيقا لا نكاد نجدهم عند غيرهم فرحمهم الله رحمة واسعة وأجزل لهم الأجر والمغفرة. تنبيه مهم: ورد في المقال السابق "الأصول المهمة في الكفر والتكفير" سقط طباعي وتصحيح كالتالي: ولما كان للكفر شعب كثيرة، فإن هذه الشعب متفاوتة في الكفر، فمنها الكفر الأكبر، كسب الله وسب رسوله صلى الله عليه وسلم وسب دينه، وإدعاء علم الغيب وأمثال ذلك. ومنها الكفر الأصغر كسب المسلم وشتمه، وكقتل المعصوم في دمه وماله وعرضه، فإن هذا من الكفر الأصغر الذي لا يخرج عن الملة ولا يوجب الخلود في النار، واستحلال دم فاعله، وإنما هو كبيرة من عظائم كبائر الذنوب.