كلما قررت أن أزيل من فكري وقلمي عادتي في النق وإشاعة التشاؤم واليأس، أجد نفسي عائدة إليهم عودة المشتاق إلى البكاء على الأطلال. ربما يعود السبب في ذلك إلى عشقي لأول بيت شعر جاهلي في «قفا نبكي» إلى أطلال أم كلثوم في «يا حبيبي لا تسل أين الهوى». أين الهوى يا ترى؟ وهل هناك هيام وحب وهوى في ظل هذه الخيبات والهزائم والجهل؟ نعم سيول الجهل وآبار الحرمان من الفنون بشتى أنواعها. قالها أرسطو لتلميذه الإسكندر حين همّ بغزو الشرق: «عليك بإشاعة الفنون هناك»، فهل هناك فن حقيقي في عالمي العربي؟ بلاش حقيقي، هات تقليد. حتى التقليد الجيد لم نعد نجيده، ونعود إلى كتب أيام زمان كي نستمتع بالقراءة وإلى أغاني أيام زمان كي نستمتع بالطرب وإلى هندسة زمان كي نمتع العين والعيش ولا نستوعب أننا في خضم عالم جديد، سريع التحول، ولابد وغصباً أن نواكبه ثقافياً برؤية جديدة. لا نستوعب ثم نتضايق من الغزو الثقافي لأطفالنا ولشبابنا! فدعهم يغزون دعهم طالما أننا لا نهتز لمبدع وكل ما نسمح به هدهدة وهزهزة النيام. ولو رددت ألف مرة أن النهضة العلمية يسبقها نهضات ثقافية وفكرية، فلن يصدقني أحد منكم و لن يوليني أي اهتمام. ولو ذكرتكم بأن النهضة الأوروبية بعد عصور الظلام كانت فنية في بداياتها قبل تحولها إلى العقل فالعلم فالتكنولوجيا، فهل ستوافقونني؟ لكن هذه المرة رجاءً وافقوا! فهذا الغزو يقلقني حقاً ويحبطني، وهذه التكنولوجيا الغربية تزيدني تحجراً في عاطفتي وعقلي وإبداعي، وأنا في الأصل لست مبدعة وليس عندي مهارات ولا هوايات ولا فنون شعرية ولا أدبية ولا غنائية ولا فلسفية، لا شيء. أنا لا شيء. ومساءاتي رتيبة مملة لا أخذ فيها ولا عطاء، وحتى لو كنت تظنني كاتبة إلا أنني لا أعتبر نفسي كذلك لما لمعنى الكتابة من حق وواجب وإبداع واحترام. كذلك اعتبر معظم الذين يكتبون في الساحة مثلي هواة، كلنا ننفع في بريد القراء، وبريد المدونات وبريد الإيميلات، كلنا كذلك ولا فرق بيني وبين أم حسين التي تعبت وهي ترسل إيميلاتها هنا وهناك، فالكل يريد أن يُعبّر بضم الياء لا أن يَعبر بفتح الياء وفتح العقول والآذان و«الأذونات». كل إبداع قبل أن تفكر فيه عليك أن تفكر بإذن له ومخرج، فبعد إذنك وعن إذنك افتح لي إذنك كي يحضر الأدب ويحضر الفن لاستيعاب المتغيرات العالمية لصالحنا، بدل الاكتفاء بمواصلة العزف والدق والنقر على العصب والأعصاب. نريد أعصاباً مرتاحة «ريلاكس»، نريد أن نتجاوز الإحباط والقلق والتمزق والانفصام والارتباك والفوبيا والتعصب إلى بناء مجتمع ثقافي حضاري متقدم لا يوجد فيه اضطراب في الشخصية والهوية. لا أقول إن الفن وحده القادر على حل كل العقد النفسية والسوسيولوجية، ولا العلم وحده ولا الرياضة وحدنا ولا الهويات التي نمارسها، ولذا تجدنا نعود إلى الإقامة في الماضي! لأننا كلما عشنا حاضراً وجدنا أننا ننشز وأن فنوننا وأشعارنا ورسوماتنا وحتى حواراتنا نحن أهل الكلمة والكلام صياح في صياح وشد شعر وشد حبال. هذا إذا وجدت العضلات لهذا الشد، فالتكلس قد أصاب ما أصاب وفقدنا الليونة، تخشبنا في عواطفنا فأين الموهوب؟ وأين الذكي والخلاق والطليعي وصاحب المبادرة والأفكار، والفاعل لا المفعول به؟ وأين الدؤوب النشيط المرهف الذي يقدر أن يقدم لك ما ينفعك ويسليك ويثري وجدانك؟ لكن ما هو الوجدان؟ أجبني أتعرف ما هو الوجدان وما الذي يشكل الوجدان؟ أنا أعرف ما هو الوجدان ولكن لن أخبرك به وعنه، وسأتركك وحدك باكياً على الأطلال وسأظل أنقر على أعصابك حتى تفك لغز الوجدان، وحين ذاك تعال إلي وأخبرني عنه، أما الآن فاتركني وحدي «ريلاكس» أعيش في وجدان أيام زمان... عتيقة لكن أحسن من بلا وجدان. خلف الزاوية لما رآني على الأطلال باكية خوف ألمَ به وارتاب وارتبكا ولست أذكر إن كان عانقني ولكنني أذكر اللحظات حين بكى [email protected]