وزير الخارجية الاميركي السابق هنري كيسنجر انتقد، في أحدث مقال له نشرته صحيفة «واشنطن بوست» مطلع الشهر الجاري، تعامل واشنطن مع العراق في ضوء خطاب الاتحاد الذي القاه الرئيس باراك اوباما امام الكونغرس الشهر الماضي، معتبراً ان اميركا باتت تنأى بنفسها عن مناقشة الاهمية الاستراتيجية للعراق بالنسبة الى مصالحها. كيسنجر خاض في توضيح أهمية «بلاد الرافدين» من وجهة نظر انها «النقطة الاستراتيجية المحورية للمنطقة طوال الألفية الماضية، وكانت مواردها تؤثر في دول بعيدة منها للغاية»، منبها الى ان ما وصفه ب «الخط الفاصل بين عالمي الشيعة والسنة يمر في مركزها (بلاد الرافدين)، بل في عاصمتها، وتقع المقاطعات الكردية في اجواء من التوتر بين تركيا وايران وخصومها الطبيعيين في العراق». لهذه الاسباب، ليس من مصلحة اميركا ترك المنطقة في حال فراغ سياسي. فالعراق هو الدولة التي «سيحدد التطور الذي يطرأ عليها كيفية الحكم على العلاقة بين اميركا والتيارات الرئيسية في المنطقة». وينظّر كيسنجر في هذا الصدد بالقول انه قبل حرب العراق في 2003 «كان التوازن بين العراق وايران واقعاً جيوسياسياً مهما داخل المنطقة في وقت كانت حكومة بغداد سنية تتزعمها قيادة ديكتاتورية، بينما حتى الآن لم يتم التوصل الى توازن مناسب بين المكونات السنية والشيعية والكردية في اطار البناء الديموقراطي الجزئي الذي نشأ بعد الحرب ويهيمن عليه الشيعة، كما لم يتم تحديد طبيعة العلاقة مع ايران على المدى البعيد». هنا يكمن الخطر من انه «إذا غلب راديكاليون على الجزء الشيعي، وسيطر الجزء الشيعي على المناطق الكردية والسنية، وإذا ما تواصل مع طهران، فسنشهد ونسهم نسبياً في تغير جوهري في ميزان القوى في المنطقة»، مع تبعات مثل هذا التطور على دول خليجية، وحتى على لبنان «حيث «حزب الله»، الذي يحصل على تمويل من إيران، اقام بالفعل دولة شيعية داخل الدولة». بعبارة اخرى أياً كانت نتيجة الصراع الدائر في شأن الملف النووي الايراني، سواء تمت تسويته بالطرق الديبلوماسية أم بغيرها، فإن «الاستقرار داخل المنطقة يتأثر بالقدرة على إحداث توازن استراتيجي وسياسي بين العراق وايران»، و «من دون مثل هذه الترتيبات ستواجه المنطقة خطر البقاء إلى أجل غير مسمى فوق كومة من المتفجرات فتيلها مشتعل»، على حد تعبير كيسنجر. من المؤكد ان الاتفاق ممكن مع دعوة كيسنجر في خاتمة مقاله الى انه يتعين على اميركا ان تبقى لاعباً ديبلوماسياً فاعلا، وان وجودها يجب ان يُفهم بأن له هدفاً لما بعد انسحابها من العراق، وان هناك حاجة الى اعلانها التزاماً سياسياً تجاه المنطقة، وايضاح ان هناك استراتيجية مرتبطة باستراتيجية الخروج من العراق. لكن ما لا يمكن قبوله هو ان تكون استراتيجية ما بعد الانسحاب الاميركي ذات بعد احادي يتمثل في ان اهمية العراق تكمن في كونه، قبل كل شيء، اداة للتوازن مع ايران. يذكّر هذا الطرح العراقيين بالحقبة المظلمة التي أعلن خلالها نظام صدام حسين ان العراق هو «البوابة الشرقية للوطن العربي»، تبريراً للحرب مع ايران، فيما كان هذا «الوطن» يقدم له دعماً شاملا على حساب مئات الوف الارواح ودمار مادي واقتصادي هائل لحق بالجارين العراقي والايراني كي يدخلا ومعهما المنطقة في متاهات لم تخرج منها حتى اليوم. أكيد أن هناك من يأمل بأن يعود العراق «بوابة شرقية» تجدد امجاد «القادسية» في مواجهة «الغزو المجوسي». البعثيون يروجون علناً توجهاً كهذا عبر بياناتهم وطروحاتهم التي يمكن متابعتها بسهولة في المواقع الالكترونية التابعة لحزب البعث. الى ذلك فإن كتاباً وسياسيين من «القومجيين» العرب، كي لا يُقال بعض الحكومات العربية، يدعون الى مثل هذا التوجه ايضاً من خلال وسائل اعلام عربية ومن على منابر ندوات تعقد في المنطقة وخارجها. كذلك يحظى هذا الطرح بتأييد في اوساط اكاديمية وسياسية غربية ومن قبل نشطاء «ينصحون» الولاياتالمتحدة عموماً بأن «قدر» العراق هو ان يبقى قوة للتوازن مع ايران حماية لمصالح المنطقة والغرب. يدعو ما سلف العراقيين الى ادراك المخاطر التي تهدد النظام الجديد، الأمر الذي ينبغي ان تدركه أولاً القيادات العراقية كي لا تضيع على العراق فرصته التاريخية في ان يكون جزءاً من العالم المتحضر بدل ان يقع في ما يعيده الى عصر الظلام. سبع سنوات مرت على تحرير العراق من الديكتاتورية وهو يستعد لخوض انتخابات حرة في غضون ثلاثة اسابيع، وذلك للمرة الثانية خلال خمس سنوات. طبعاً لا ينبغي التقليل من حجم التحديات الكبيرة التي يواجهها العراقيون وهي ليست كلها خارج ارادتهم، بل هم يتحملون مسؤولية الجزء الاكبر منها. يُقال هذا مع الاشارة الى انهم على رغم كل شيء يملكون دستوراً وبرلماناً وقضاء ومؤسسات مهمة توفر لهم قدراً كبيراً من الحرية والديموقراطية، والأمل في ان الانتخابات المقبلة ستعززها وتوسعها. الأكيد ان العراق يحتاج آنيا الى تحقيق الأمن والخدمات واجواء مريحة لإجراء انتخابات حرة ونزيهة تؤدي نتائجها الى ترسيخ الاستقرار والديموقراطية الى جانب الأمن وتوفير الخدمات. لكن هذا وحده غير كاف لضمان المستقبل. إذ ما لا يقل اهمية ان يكون عراقاً مسالماً ايضاً وقادراً في الوقت نفسه على امتلاك قوة عسكرية تمكنه من حماية نفسه. فالوقت حان كي يتحرر العراق من ماض مليء بالانقلابات العسكرية والحروب المدمرة في ظل انظمة قمعية آخرها نظام صدام التوتاليتاري. الوقت حان كي تتبنى الولاياتالمتحدة استراتيجية تدعم مثل هذه التطورات في العراق. لكن الجزء الاكبر من تحقيق ذلك يبقى مسؤولية العراقيين انفسهم لإقناع العالم بأنهم يستحقون هذا الدعم.