في الشرق الأوسط الذي تبتلعه نيران الحروب، تأجّجت أمام أعيننا نيران صراع جديد، بعد أن قرّرت حكومة تصريف الأعمال التركيّة معاودة شنّ حرب. وقد حصل الأمر بطريقة غريبة: فبعد هجوم «داعش» الانتحاري في بلدة سروج التركية الجنوبيّة، الذي استهدف ناشطين محتشدين لإعادة بناء كوباني، وقُتل فيه 33 مواطناً تركياً، أعلنت الحكومة التركية الحرب على الضحايا، وليس على الجاني. ووضعت إدارة أردوغان حدّاً ل «عملية الحل» التي سمحت ببقاء الصراع مجمّداً منذ كانون الثاني (يناير) 2013. ومع أنّ معظم المحللين يعلّلون ما يحصل بالحسابات الانتخابية للرئيس التركي، فإن للصراع المذكور جذوراً أعمق، وستمتدّ تداعياته على الأمد البعيد. اللافت أنّ الحرب الجديدة التي شنّتها تركيا تستند إلى منطق سياسي قصير الأمد: فبعد تعذُّر الفوز بغالبيّة برلمانيّة في انتخابات حزيران (يونيو) الماضي، يسعى أردوغان وحزب العدالة والتنمية الذي يترأسه، من خلال شنّ حرب ضد الأكراد، للفوز بأصوات القوميين في انتخابات سابقة لموعدها ستُجرى في تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل. بيد أن فهم قرار أنقرة سيكون صعباً من دون العودة إلى جذور الصراع التاريخيّة. سبق لتركيا أن استغلّت الأكراد. ففي أواخر القرن التاسع عشر، وفيما كان السلطان العثماني عبدالحميد الثاني يحاول فرض حكم مركزيّ على المقاطعات شبه المستقلّة في الإمبراطوريّة، نظّمت العشائر الكرديّة ضمن قوى حدوديّة شبيهة بالقوزاق، وكانت تُعرَف باسم «الخيالة الحميديّة». ومع أنّ الإمبراطوريّة لم تكن قادرة على دفع أجر هذه القوات الاحتياطيّة، سمح لها السلطان بنهب الشعبين الأرمني والآشوري وبقتلهما في المقاطعات الشرقيّة. وقد استُخدِمت هذه القوّات خصوصاً في المجازر الحاصلة بين العامين 1894 و1896، حيث وصل عدد القتلى المدنيين إلى 300000. وعندما استولت «جمعية الاتحاد والترقّي» (تركيا الفتاة) على السلطة عام 1908، بدأت بتفكيك الخيالة الحميديّة، ولكنّها سرعان ما عاودت لمّ شملها تحت اسم «خيّالة العشائر». وفي 1915، كان لهذه القوّات العشائريّة الكرديّة دور رئيسيّ في المجازر المرتكبة بحقّ الأرمن، وفي ترحيل المدنيّين، وفي نهب ممتلكاتهم واحتلال قراهم. في نهاية الحرب، وضع البريطانيون والفرنسيون الفائزون، في سياق إعادة رسمهم لخرائط المنطقة، خططاً لتأسيس دولة كردستان مستقلّة، وفقاً لما كان موعوداً به في معاهدة سيفر. إلا أن القادة العشائريين الأكراد فضّلوا بمعظمهم التعاون مع القوميين الأتراك بقيادة مصطفى كمال. ويُعزى السبب، في القسم الأكبر منه، لخوفهم من أن يرغمهم البريطانيون والفرنسيون على التخلّي عن الأراضي التي احتلّوها من الأرمن، أو لكون مصطفى كمال قد وعدهم بالاستقلال الذاتي في حال الفوز. ولكن ما إن فاز القوميون الأتراك في مواجهة الحلفاء، حتّى تراجعوا عن وعودهم. وبنوا دولة مركزية لا وجود رسميّاً للأكراد فيها، حتّى أنّ التكلّم بالكرديّة بات محظوراً، واعتُبِر الأكراد «أتراك الجبال»، فنتجت عن هذا التغيّر في السياسة سلسلة انتفاضات كرديّة، ما بين 1920 ونهاية الثلاثينات، وقد جوبِهت بالقمع العنيف. وحصل الأسوأ في منطقة ديرسم التي يقطنها أكراد علويون في شكل خاص، والتي كانت بقيت شبه مستقلة طوال قرون، وارتكب الجيش التركي فيها مجازر كبيرة، ما تسبّب بقتل نحو 13000 شخص، من مجموع سكّان كان يصل إلى 80000 شخص، فيما تمّ ترحيل من تبقّى من السكّان المحلّيّين. واستغلّ العثمانيون والقوميون الأتراك العشائر الكردية لقتل الأقليات المسيحية في الإمبراطورية. وبعد التخلّص من هؤلاء، عاملوا الأكراد عينهم بالمثل، لتكون بالتالي أوّل خيانة يرتكبونها بحقّ الأكراد. بعد ديرسم، نسيت تركيا «المشكلة» الكرديّة، إذ اعتبرت أنّه تمّ إيجاد حلّ لها. بيد أنّ المناطق الكرديّة بقيت الأقلّ تطوّراً من وجهة نظر اجتماعيّة – اقتصاديّة، وبقي الأكراد محرومين من حقوقهم الثقافيّة وهويّتهم، علماً أنّ هذه السياسة تحديداً ساهمت في تأجيج انتفاضة حزب العمّال الكردستاني، الذي أطلق حرب ميليشيات في العام 1984. ودار صراع عنيف، حيث عمد الجيش إلى إخلاء وتدمير أكثر من 3500 قرية كردية، بهدف حرمان الميليشيات من الدعم الاجتماعي، كما أودى القتال بحياة 40000 شخص. عندما وصل حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في العام 2002، ظهر أمل بأن تُغيّر الدولة التركيّة سياستها إزاء الأكراد. ذلك أنّ الحزب عمد إلى مراجعة الإحالات الإيديولوجية للدولة التركيّة، فحدّ من مستويات القومية التركيّة، وعزّز الإحالات إلى الإسلام. وضمن إطار كهذا، بات حزب العدالة والتنمية قادراً على تصوّر مفهوم الاعتراف بالحقوق الثقافيّة الكرديّة، في سياق إحالة أوسع نطاقاً إلى الاعتناق المشترك للدين الإسلامي. وقد تحسّنت ظروف استعمال اللغة الكرديّة على أرض الواقع. وكانت الاستثمارات الحكوميّة، على غرار بناء سدّ كبير وغيرها من مشاريع البنية التحتيّة، تهدف إلى معالجة مشاكل الأكراد الاقتصاديّة. بيد أنّ أنقرة لم تطلق أيّ حوار سياسيّ جدّي لإيجاد حلّ للأزمة المستمرّة منذ قرن. وبالتالي، لم يكن للطموحات القومية الكردية مكان في إطار عمل حزب العدالة والتنمية، وكان جلّ ما يتمنّاه هذا الأخير هو بروز تيّار كرديّ إسلاميّ يقوّض نفوذ حزب العمّال الكردستاني. وبالنتيجة، شهد العام 2012 تصعيداً عسكريّاً، سرعان ما تلاه إعلان وقف إطلاق نار مفاجئ في كانون الثاني (يناير) 2013، وتلته بداية «عمليّة الحل». ولعلّ هذا الوقف الموقت لأعمال العنف كان مرهوناً بأحداث سورية، إذ فضّل الطرفان تركيز مواردهما على الصراع السوري. ساهم حدثان في تغيير حسابات أنقرة، تمثّل الأوّل منهما بالمقاومة التي أظهرها الأكراد لتنظيم «داعش» في كوباني – وقد نظّمها، في القسم الأكبر منها، حزب العمّال الكردستاني وفروعه – وتلتها انتصارات في تل أبيض ومؤخراً في الحسكة. وبنتيجتها، لم يبقَ سوى معبر صغير، في جنوب المنطقة الحدودية التركية السورية، خارج نطاق سيطرة الأكراد. والواقع أنّ أنقرة تخشى ظهور دولة كردية ثانية، بحكم الأمر الواقع، جنوب حدودها، الأمر الذي سيعزّز نفوذ حزب العمال الكردستاني. أمّا الحدث الثاني، فكان نجاح حزب الشعوب الديمقراطي في اكتساب نسبة 13 في المئة من الأصوات الانتخابيّة، الأمر الذي خوّله دخول البرلمان. منذ سنتين، اضطرت تركيا إلى اتخاذ قرار على صعيد السياسة الخارجية، فإما تتحالف مع الأكراد لحماية حدودها الجنوبية من موجة الاضطرابات المتفاقمة في سورية والعراق، أو تختار دعم المجموعات الإسلامية المتطرفة، على غرار الدولة الإسلامية والمجموعات المنتسبة إلى تنظيم «القاعدة»، وتعمد بالمقابل إلى معاداة الأكراد. لقد أفسح وقف إطلاق النار، المعلن في كانون الثاني (يناير) 2013 بين الجيش التركي والميليشيات الكردية، المجال أمام توصّل الطرفين إلى اتفاق شامل، يقضي بإطلاق إصلاحات سياسية داخل تركيا، ويفسح المجال أمام إنشاء تعاون في سورية. ولكنه كان من الواضح أنّ أردوغان اختار الحل الثاني في نهاية المطاف. أمّا اللحظة الحاسمة، فكانت خلال معركة كوباني، عندما أعلن أردوغان قائلاً: «نعتبر أنّ حزب العمّال الكردستاني لا يختلف عن داعش على الإطلاق. ومن الخطأ التفرقة بينهما». ومع صدور هذا الموقف التركي، اعتبر أكراد تركيا، الذين كان إخوانهم يحاربون في سبيل صمودهم، أنّه بمثابة خيانة جديدة لهم. لا شكّ في أنّ الميليشيات الكرديّة التابعة لحزب العمّال الكردستاني لا تضاهي الجيش التركي بقوّتها. ومع ذلك، سبق أن حاول الجيش التركيّ إيجاد حلّ عسكريّ للمشكلة الكردية، وباءت محاولته بالفشل. واليوم، باتت مكانة الأكراد أقوى بكثير، إذ نشأت دولة كردية شبه مستقلة في شمال العراق منذ العام 2003. وفي شمال سورية، تسيطر الميليشيات الكردية السوريّة على قسم كبير من المنطقة الحدوديّة مع تركيا، وقد أثبتت أنّها قوّة مقاتلة فعّالة ضدّ داعش، لتستحق بالنتيجة اعترافاً دوليّاً – يشمل إقرار واشنطن بإنجازاتها. أمّا الأهم، فهو أنّ الانتخابات الأخيرة كشفت أنّ القومية الكردية تطغى على التوجّه الكردي الإسلامي داخل تركيا بحد ذاتها. في منطقة الشرق الأوسط الغارقة في أتون حروب الهويّات، كانت عملية السلام التركية الكردية، على رغم نواقصها، فسحة أمل توفّر وجهة بديلة. ولعلّ هذه الحرب الجديدة ستساعد أردوغان في الانتخابات المقبلة. إلاّ أنّ تركيا خسرت فرصة جديدة أخرى لإحلال السلام بينها وبين شعبها الكردي.