لأربع سنوات امتلكت أدوات إقناع حقيقية ومنطقية أُخرس فيها ضجيج الغربة المتنامي فيّ، فأنا فعلاً وحقيقةً غريبة عن كلّ القرى والمدن والبلدات التي زرتها وعشت فيها منذ عام 2012 للآن. لم أعرف الرّقة قبل أن تغنّي الثورة على جدرانها خضرةً للحرية، ولم أز دير الزور قبل أن يرتمي نصفها على الأرض مغشيّاً عليه من القصف. لم أعرف من ريف إدلب إلا أسماء قرى مررت فيها أثناء رحلاتي المكوكيّة من جامعتي في دمشق إلى بيتي في المدينة، إضافة الى تلك التي درّست فيها أمي وخالاتي. لم أعرف من سراقب غير استراحات الطريق الدولي التي اعتدنا أكل البوظة والهيطلية، ولم أزر في أريحا غير المطاعم الجبلية، وليس لي في اللاذقية الا ذكريات مناطق الاصطياف فأنا لم أرصد القرى «العلوية» قبلاً لأتجنّب القذائف القادمة منها، ولم أختبئ في المغاور الجبلية عندما يشتدّ القصف. «لست من هنا» جوابي الجاهز كلما تمدد الفراغ داخلي، أنا من مدينة «مُحتلّة» وهو الاسم المُتعارف عليه بين النشطاء لوصف المناطق الخاضعة لسيطرة النظام، لذا أنا هنا ولست هناك. أما انتمائي فعلاً لا ولادةً فهو لعاصمة المُحتّل، دمشق، كانت ما أردت أن تكون محطّتي الأخيرة، فيها قررت أن أعيش وأستقر منذ العام الثاني لي في جامعتها، وعلى رغم أسفاري للبلاد المُشتهاة كنت دائماً أعود إليها حبواً كجريح يبحث عن حائط يخفي عنه عيون القنّاص. في الأسبوع الأول لي فيها جلست أمام باب كليّة الإعلام أبكي ضياعاً، كنت وحيدةً وتائهة فلا محطّة انتقالية بين مدينتي الصغيرة والعاصمة ولا أقارب يحملون عني أعباء رحلتي الأولى نحو الجامعة والتسجيل والبحث عن منزل... في سنتي الأخيرة من الجامعة تطوّعت للتمثيل بمسرحية لذوي الاحتياجات الخاصة مع جمعية خيرية، ولعشرة أيام كان في المسرح أصدقاء لي يصفّقون ملء الحب، قلت لصديق عندها ونحنا عائدون من مسرح القباّني باتجاه سينما الشام، «إذا لم تعطيني دمشق إلا هذا، فهو أكثر من كافٍ». لم يعدّ أي منهم هناك، تقاسمتهم المعتقلات والقبور والبحار وأوروبا ودول النزوح، لكنّ دمشق لم تزل بيتي الذي نضجت فيه وتحوّلت من الصبية الريفية البسيطة الفقيرة إلى زينة الصحافية القويّة. غادرتها آخر مرة في الشهر الثامن من عام 2011 إلى إدلب، كنت فيها كما أنا بينما اضطررت لارتداء الخمار في مدينتي لأخفي وجودي عن شبيحة يعرفونني من العيون ويميّزونني بالصوت، وكانت تلك غرسة الغربة الأولى. سقتها بعدها سموات ثقيلة بكرم... بكل ما أوتيت من حديد، استبدلت دمشق نفسها لدي من ذكريات ورفاق ونشاطات ثقافية وفرص إلى سكود وبرميل وحصار واحتفالات رقص على كل قهر جديد، لم تعد إلا كابوساً أركض فيه خوفاً من الاعتقال لأصحو على قصفها بالواقع. أنا لست من هنا، لكن هنا العديد منّي، في حلب وحدها عشرات النشطاء الذين هجروا مناطقهم وبيوتهم مختارين القصف على الاعتقال، عشر دقائق سيراً على الأقدام كانت تفصل أم أشقر (في المُحتل) عن البيت الذي أقمنا فيه عرسه (في المُحرر)، ولم تستطع أن تقطع الطريق الفعلي والذي يتجاوز ال12 ساعة مع أكثر من سبعة وعشرين حاجزاً، لتكون معنا في زفاف بكرها. مئة وخمسون متراً فصلّتني لأكثر من أربع سنوات عن مدينتي وأهلي وأصدقاء الحياة السابقة، إلى أن جاء ذلك اليوم الذي كشفت فيه نفسي خديعتي عليها وواجهتُني... لنخسر معاً. في الثامن والعشرين من أيار (مايو) هذا العام، لم أكن أستوعب كل الأخبار، تكلّمت مع أحد الأصدقاء القلّة جداً ممن بقوا لي من ثوار إدلب فقال لي «تعي». تكفّل بإيقاظنا الساعة السابعة صباحاً برميلان منضبطان لا يخلفان الميعاد، لم آبه على غير عادتي، أغلقت النوافذ لأمنع غبار القصف من توسيخ المنزل استعداداً لاستقبال النازحين من القصف الجديد الاعتيادي في حلب، وانطلقنا في رحلتنا إلى إدلب. كانت سيارتنا الوحيدة تسير عكس التيار، المئات من السيارات مُحملّة بما تيّسر لها من عائلات مُبتعدة عن وجهتنا، تعبت عيوني من البحث عن وجوه مألوفة وعن عائلتي النازحة، قفزت من السيّارة مرات عدّة لأسأل الهاربين الجدد عن الوضع والمناطق والعائلات والشهداء، لم يعكّر صفو الذهول الذي سكنني سوى صورة يوم القيامة كما شرحتها لنا آنسة الديانة في المدرسة. هذا تماماً ما تخيّلته... كانت السيارات والمتطوعون يذهبون إلى المدينة لتحميل المدنيين ثم يأخذونهم لمعرة مصرين وبنش يفرغون الحمولة ويعودون للمدينة من جديد، لكن ماذا بعد؟ بدأ القصف المدفعي على البلدتين والعائلات تفترش الشوارع منتظرة قريباً بعيداً يأتي باحثاً عنها ويجدها مصادفة فيأخدها ليأويها في بيت سبقها بالنزوح إليه. دخلت المدينة تماماً من حيث المئة وخمسين متراً التي كانت تفصلني عنها، تعطّلت صمّامات الدموع لا شوقاً ولا فرحاً ولا حزناً ولا شيئاً... عطل فنّي... وبدأت خيوط مؤامرتي تنكشف. لم أعرف الكثير من المناطق، طُمست ملامح المدينة بالأعلام الحُمر وأعلام البعث، الكثير من المتاريس وبقايا الحواجز. مناطق جديدة وأخرى ذهبت، دوّارات مختلفة ووجوه لا أذكر أي منها. كمتشّرد لحوح بدأت أطرق أبواب الذكريات، لم أجد أهلي، ولا أصدقاء الطفولة، سألت في الحارة عن والدي فأتى نحوي رجل بشعر أبيض وسألني «أنا محمد، كيف بقدر بساعدك يا خيت؟». ضحكت، يا الله كم ضحكت... كنت الخبيرة الذي يسألها الجميع عن تبعات التحرير «سيقصفنا بشدّة؟ حتى متى؟ تقترحين أن ننزح أم نبقى؟ هل بيتنا آمن؟ كيف الطريق؟ الحدود التركية مفتوحة؟». كُمّ عباءتي الأيمن أصبح مُبتلاً بالكامل، حوّلت للأيسر ولم أعد أرى جيداً، بدأت أكذب على نفسي من جديد، ربما هذا الغباش هو سبب ما أحسّ به من غربة وغرابة وأنا أخيراً في مكاني... وقد فات الآوان. وصلت الى حارتي، تسمّرت أمام بناء منزلنا طويلاً، عصفت الذكريات والأصوات والحكايا بروحي وغنّى كاظم في رأسي ما كان يتقصّد جارنا الشاب أن يسمعّني من نافذته «نفيت واستوطن الأغراب في بلدي ودمّروا كل أحلامي العزيزات» ولم أتحرك، لم أستطع أن أتحرك، بعد أربع سنوات من انتظار العودة الى بيتي، وغرفتي وما بقي من أغراضي وذكرياتي، رجعت إلى بيتي في حلب من دون أن أعيش هذه اللحظة، أجّلتها ربما، لأترك لنفسي خرم الإبرة هذا كمنفذ أبرر فيه لنفسي شعورها بالغربة في حارتها، مدينتها، «لم أدخل بيتي» سأجيبها دائماً كلما تذّمرت من الاغتراب، لكنني هذه المرّة فقط، صاحبة القرار في اغترابي. تضحك نفسي علّي تدير ظهرها رافعةً إصبعها الوسطى بوجه مؤامراتي الوطنية... تعرفين وأعرف. أنا من هنا وأنا غريبة كأني لم أكن في حياتي قريبةً من هنا.