تقول لي أمي: حين يتعذر الاتصال اذهبي إلى الفايسبوك، ساتصل هاتفياً بقريبتنا في حلب وهي ستكتب لك أخبارنا على صفحتها. أمي لم تقل «صفحتها» لأنها لا تعرف كيف يعمل الفايسبوك بالضبط، هي تسمع أنه للتواصل، أما كيف؟ فالعلم عند رب العالمين. المشكلة أنني أقاوم حتى الساعة استعمال وسيلة التواصل هذه. لكن، هل ستجعلني حمص أتخلى عن مقاومتي؟ الاتصالات مقطوعة مع حمص منذ ثلاثة اسابيع، لا انترنت ولا هاتف أرضي ولا جوَال. قالوا انهم سيتصلون ليبعثوا بأخبارهم إلي أنا المقيمة في الغربة، عبر معارف في المدينتين اللتين ما زالتا «مدللتين» في سورية وما زالت خطوطهما الدولية مفتوحة: دمشق وحلب، ومن هناك ستصلني أخبارهم. أما حمص... فالاتصال تمَ مرة واحدة فقط، «فتح» الخط للحظات، بيد أنه ما لبث أن انقطع من جديد. أمي تقول الوضع لا باس به في حيّنا، هناك فقط أصوات الانفجارات التي لا تنقطع والقناصة على الأسطح القريبة، ولذلك ليس بمقدورهم إصلاح «الديش» على السطح خوفاً من رصاص شديد الطيش. تتذكر حين ألح في المطالبة بمزيد من الأخبار أن قارورة الغاز في البيت فرغت وسعرها الجديد ،إن وجدت، الف ليرة (كان 250)، ولا تنسي! تنبهني، انهم مدللون لأن مركزاً للمخابرات قريب منهم ولذلك لا تنقطع الكهرباء عنهم، وأنهم انتقلوا من الغرف المطلة على الشارع إلى الردهة الداخلية خوفاً من اقتحام مواد غير مرغوب فيها. وأن صديقة لي شامية محبوسة في حمص، اتت لزيارة عائلتها حين بدأ القصف ولا تستطيع العودة إلى دمشق « الآمنة» وها هي تجرب «جنون» الحماصنة الظريف. وتضيف مسرعة قبل انقطاع الخط أن عائلة «فلان» تركت منزلها في حي الانشاءات إلى بيت أحد أبنائها لأنه أكثر أماناً ودفئاً. فعدم توافر المازوت جعل عائلات عدة تتجمع حول مدفأة واحدة... وأنهم لا يخرجون من البيت لا للعمل ولا للمدارس. لم أقل لها لن يغير هذا شيئاً، فصديقتي لم تكن بالأصل تعمل كثيراً كانت فقط تذهب للتوقيع صباحا ثم تغادر في مهمة وهمية لتعود وتوقع قبل نهاية الدوام. أمي بدت مرتاحة لتخلصها من الحاحي عليها بمغادرة حمص، انها لا تستطيع ذلك حتى لو رغبت، هي التي لا تحب مكاناً مثل حمص، هي التي قالت يوماً لرجل الأمن الفرنسي حين طلب منها ورقة كانت ناقصة قبل أن يسمح لها بالعبور: أتظن أنني أرغب بالبقاء في بلدك؟ أتظن حقاً انني سأترك حمص من اجل فرنسا؟ أمي لم تقل لي شيئاً منذ أسبوعين. تذكرين أمي حين كنت صغيرة كنت مغرمة بسماع برنامج يومي (على ما اعتقد) في الاذاعة السورية يدوم دقائق ودقائق. «أنا فلان ابن فلان... أهدي سلامي إلى... وإلى...» وتكر سلسلة من اسماء أقارب واهل وجيران انقطعت أخبارهم. كنا غالباً ننهي معه عبارة الخاتمة، عبارة مدهشة حفرت في أذهاننا: «اطمئنوا وطمئنونا عنكم». بعدها كان يهدر صوت المذيع باعثاً الرهبة والحماسة في قلوبنا :»اذاعة فلسطين» من دمشق. كان فلسطينيون يبثون من «قلب العروبة النابض» قلقهم على أهلهم في الطرف الآخر المحتل.