يبدو أنّ جو قديح استساغ لعبة المونودراما والوقوف وحيداً على الخشبة، أو بالأحرى شعر أن جمهوره استساغ ذلك فأعاد الكرّة بعد «حياة الجغل صعبة» التي عرفت نجاحاً كبيراً العام الماضي، وراهن على مسرحية جديدة أطلق عليها اسم «أشرفية»، ومن منطقة الأشرفية في بيروت نادى كل المناطق في لبنان. هذه المسرحية التي كتب نصهّا جو قديح بنفسه وأخرجها، تحت إشراف المسرحي جلال خوري، ولعب فيها وحيداً، تعكس بوضوح الخط الذي يؤسسه لنفسه محاولاً أن يرسم نمطاً يشبهه بطريقة الكلام والحركة. لا سينوغرافيا معقّدة، بل يمكن القول حتّى إنّ لا وجود لسينوغرافيا في المعنى الدقيق للكلمة، ولا ديكور ضخم ولا إضاءة متطلّبة... المسرحية قائمة على ثلاثة ركائز أساسية: النص، الممثل، الجمهور. يعتمد جو في نصّه على دقّة الملاحظة فيمسك التفاصيل الدقيقة بأطراف أصابعه ويصوّر المشاهد من زاويةٍ لا نتوقّعها فيشبه بذلك مصوّر الباباراتزي الذي ينتظر اللحظة المناسبة لالتقاط الصورة! المسرحية إذاً أشبه بمعرض صورٍ فوتوغرافية سبرت أغوار مجتمعنا اللبناني من أكثر أحيائه فقراً إلى أكثرها غنى، لتعكس لنا واقعاً مضحكاً مبكياً، حقيقة يسخر منها قديح فتضحكنا في ظاهرها وتبكينا في عمقها! الانطلاقة الأساسية كانت من عند خمس سيّدات من الطبقة المخملية في منطقة الأشرفية يجلسن حول فنجان قهوة ولعبة ورق لتتحدّث كلّ واحدةٍ عن مغامراتها في لعبة الإغراء على رغم أنّ عمرهنّ ما عاد صغيراً. طريقة الكاتب في هذا العمل تعتمد على مبدأ الاستطراد أو «فتح الهلالين»، فيبدأ بالكلام عن إحدى تلك السيدات قبل أن يفتح هلالين يضمّان حديثاً عن الزمامير أو إشارات السير مثلاً... يسير في خط مستقيم واصفاً يوميات نساء الأشرفية ثمّ لا يلبث أنّ يدخل في مفترق صغير، وأحياناً كبير، فيصف زحمة السير أو يروي مغامرة نوادي التدليك، قبل أن يعود إلى طريقه الأول ليسلك زاروباً جديداً... وهكذا. النص متشعّب وغني، على رغم أنّ كثرة التشعّبات يمكن أن تسبب الضياع للبعض إن لم يكونوا في حالة من التركيز الجاد. نعم، هذه المسرحية قد لا يكون هدفها الأول أن تجعلك تضحك، ربّما يكون هذا همّها الأخير، علماً أنّه مفتاح الدخول إلى الغاية المرجوة: تسليط الضوء على واقع مزعزع تأقلمنا معه بدل أن نثور عليه! هذه الغاية جادّة لدرجة أنّ أيّ تشتت شأنه أن يسمح لكمٍّ من الرسائل أن تمرّ من دون أن يفهمها الناس. في ما يتعلّق بالأداء، الركيزة الثانية التي اتّكل عليها جو قديح، فيمكن القول إنّه بسيط وغير متفلسف، ولكن هو مع بساطته شديد الذكاء! هذا الأداء الذي يتعاطى بشكل مباشر مع كلّ شخص موجود في الصالة فلا يخاطب «الجمهور» بصفته مجموعة، بل يخاطب الأفراد متوجّهاً إلى كلّ مشاهد كأنّه الوحيد الحاضر! هذه نقطة قوّة اكتسبها وطوّرها منذ عمله السابق فصار قادراً على «مسح» كلّ تحرّك في الصالة فيجيب هذا بكلمة سريعة أو يعلّق على ذاك بنظرة طريفة أو يشير إلى ذلك بحركةٍ غير متوقعة. ولكنّ هذا الأداء الذي لم يخلُ من قوّة شدّ الأنظار إليه بدا ناقصاً لناحية التنويع أو الدقة في التنقّل بين مختلف الشخصيات في بعض الأحيان، ربّما لأنّه أكّد تواصله مع مشاهديه وتفاعلهم معه فشدّد تركيزه على المعنى أكثر من الأداء بمعناه التمثيلي، فكان همّه أن يصل المعنى، وهذا ما حصل. الركيزة الثالثة في هذه المسرحية، الجمهور، وكان لها أهمية لا تقلّ عن الركيزتين السابقتين. الجمهور في هذا العرض محدود، وهذه هي الحلقة الأضعف في هذا العمل، فعنوان المسرحية «أشرفية» يشي بالجمهور الأساسي الذي يتوجّه إليه قديح، من دون أن يعني ذلك أنّ الأشخاص الذين يسكنون خارج نطاق منطقة الأشرفية لا يستطيعون مشاهدتها والاستمتاع بها. لكنّ تلك الحميمية والتفاصيل الحياتية اليومية لتلك المنطقة هي التي تعزل نوعاً ما سكان بقية المناطق وتجعلهم غافلين عن كثير من المعاني والمقاصد التي يرمي إليها جو في كلامه وحركاته، وهنا يمكن بسهولة تمييز خلفية كل شخص بين الجمهور، فترى واحداً يضحك من الطبقة الأرستقراطية في تعاطيها مع أمر ما في حين أن آخر لا يفهم ما المقصود، ثمّ تنقلب الأدوار فترى الأول غير مهتمّ بقضايا عامّة الشعب وغير معنيّ بها مع العلم أنّ الثاني يقهقه بأعلى صوته ويصفّق ويكاد يقوم عن كرسيه. قد يقول قائل إنّ هذه نقطة قوّة باعتبار أن المخرج استطاع أن يطاول كلّ شرائح المجتمع، صحيح، ولكن من ناحية أخرى هو لم يستطع أن يصل إلى الجميع في كامل المسرحية، بل لمس البعض في جزء منها، والبعض الآخر في جزء آخر. بتعبير أدق، نقطة الضعف تكمن في أنّ كلّ مُشاهد تمتّع خلال المسرحية ببعضها فقط! قد يختلف مشاهدو هذه المسرحية في آرائهم حول مدى طرافة جو قديح، كلّ واحد انطلاقاً من نسبة الضحك التي ضحكها، ولكن ما يتّفق عليه الجميع هو ذكائه في التعاطي مع الأمور، وفي طريقة معالجته للقضايا التي تطرّق إليها. حتّى لو كانت هذه المسرحية موجّهة في شكلٍ أساسي إلى الفئة المثقّفة وليس لعامة الشعب، فهي على رغم ذلك لا تفقد من أهميتها التي تؤرشف (من أرشيف) حقبة مهمة من مجتمعنا وكأنّها تقدّم بحثاً سوسيولوجياً يطاول مختلف المواضيع أو كأنّها تقوم بدراسة الاختلاف بين مختلف الشخصيات الإنسانية.