بين هيبة الموت الذي مر من هنا، وعبارات «تم البحث» و «مرحوم يبو فلان» التي طبعت كالأسى الدائم على الجدران. بين الأزقة والمنازل والمحال التي نفضت عنها الأوحال، والشوارع التي ألقت على جانبيها الركام تتسلل قوة الحياة بسرعة إلى تفاصيل أحياء جدة الغارقة في سيول «الأربعاء الأسود». تتسارع الخطوات والمركبات. كأن شيئاً كان فاستسلمت له. الشوارع التي عاث فيها «السيل» في يوم كئيب، وحولها إلى أنقاض ورفات، استعادت حيويتها وامتلأت بالحركة الطبيعية، وغادرتها ثكنات اللجان الحكومية والعسكرية ونقاط التفتيش ومركبات الجهات الخدمية متعددة الأنواع، بعد أن كانت تملأها وتلقي عليها ظلاً كئيباً يشي بجسامة الكارثة وحجم الأضرار التي خلفتها على البشر والشجر والحجر. أما المحال التي بلغت المياه يوماً لوحاتها والمنازل التي غمرها السيل والطين فاكتست حلة أخرى بعد جهد كبير بذله أصحابها في تنظفيها وترميم ما تضرر منها وتزيينها بأثاث متواضع، حتى عادت صالحة للسكن والعيش، في زمن يمضي ولا ينتظر أحداً ومتطلبات أسر وأبناء اعتادت أماكن وزوايا تحمل ذكريات حميمة وشعوراً بالأمان، ففي النهاية لا مكان يضاهي المنزل، باستثناء الأسر البائسة التي فقدت كل مقومات الحياة، وربما الرغبة في الحياة. حتى أسوأ المناطق تضرراً من كارثة السيول في جدة مثل نهاية شارع جاك ومناطق من حي الصواعد جذبتها قوة الرغبة في الاستمرار ونعمة النسيان إلى البناء وإصلاح ما تكسر فرجع إليها الكثير من سكانها وبدأت تلتقط أنفاسها، بعد أن أصلحت الشوارع المحيطة بها ورممت أركانها وشعر سكانها بالأمان والحنين إلى العودة ومواصلة الرحلة. وإذ اتجهت «الحياة» إلى الجهات الحكومية التي ترابط منذ وقوع كارثة جدة من خلال لجان مشكلة لدرس أوضاع الأحياء المنكوبة، فاتضح جلياً أن الجهود التي بذلت في تنظيف المدارس المتضررة وإعادة الروح إليها نجحت كثيراً، واستقبلت الطلاب موسم الاختبارات في مدارسهم، ولم يتبق سوى ترميمات بسيطة على بعض المدارس التي لحق بها ضرر كبير. في حين تواصل المديرية العامة للشؤون الصحية عبر مراكزها المنتشرة في المحافظة والمراكز التي خصصت لمتضرري كارثة السيول أعمالها، إذ أعلنت أكثر من مرة أنها لم توقف أياً من إجراءات الطوارئ التي اتخذتها للتعامل مع تداعيات الكارثة، وتواصل استقبال الحالات بمختلف أنواعها، وخصوصاً المتضررين نفسياً من جراء الكارثة، إضافة إلى إجراءات الطب الشرعي التي تتعلق بالضحايا وهوياتهم. وفي الوقت ذاته، تواصل الجهات الأمنية جولاتها على الأحياء المتضررة من السيول، حيث لا تخلو شوارعها من دورية أمنية تحوم هنا، أو مركبة للدفاع المدني متوقفة هناك، وإن كانت كثافتها خفت كثيراً عن الأيام الأولى للكارثة التي كانت فيها شوارع بعض الأحياء كثكنة عسكرية لآليات الدفاع المدني والشرطة وحتى دوريات الحرس الوطني وقوات المهمات الخاصة. فيما تنتشر آليات أمانة محافظة جدة في بعض الشوارع لرفع القليل المتبقي من الركام عنها وعن الأزقة الضيقة، إضافة إلى أعمال تمهيد الطرق التي جرفتها السيول وإعادة رصفها وإنارتها وسفلتتها مجدداً، وفتح طرق بديلة لتسهيل تحركات السكان حتى الانتهاء من تجهيز الطرق والشوارع في الأحياء المتضررة. وتظل المهمات الأعقد والأكبر تقع على عاتق قيادة الدفاع المدني في مدينة جدة، التي تمد أيديها لمساعدة كل الجهات في إنجاح أعمالها، في الوقت الذي تواصل فيه عملياتها الخاصة من خلال لجان حصر الأضرار المادية والبشرية، وقوات المساندة التي ترابط في مواقع عدة، استعداداً للتدخل في أعمال المساعدة وحالات الطوارئ، إلى جانب فرقها المخصصة للبحث عن المفقودين واستخراج الجثث التي يحتمل أنها لا تزال مطمورة تحت أوحال البحيرات والمستنقعات التي خلفها السيل.