يواكب صدور ترجمة كتاب «التشيّع والتحوّل في العصر الصفوي» للمستشرق كولن تيرنر إلى اللغة العربية (ترجمة حسين علي عبدالساتر وصدر أخيراً عن منشورات الجمل) مرحلة حرجة في تاريخ المنطقة. فهذا الكتاب يعتبر من أهمّ ما كتب في العصر الحديث في مجال الدراسات الإيرانية عموماً وما تعلّق منها بالحقبة الصفوية بخاصة، واستطاع المؤلف أن يجيب عن أسئلة خطيرة تتعلّق بمدى أصالة الفكر الشيعي السائد. قسّم كولن تيرنر كتابه إلى خمسة فصول، حاول من خلالها رصد التحوّل الثقافي زمن الصفويين من زوايا عدة، فدرس في الفصل الأول ما حصل من انزياحات في هذه الفترة من خلال ثنائية الإيمان والإسلام، وركّز على دلالات المصطلحين في القرآن والسنّة، باعتبار أنّ الانزياح تجاوز النصّ وأسّس مرجعية بديلة اضطربت فيها الدلالات وحصل فيها الخلط الذي نتجت منه هيمنة الفقه والفقهاء وترسيخ التفريعات الفقهية وجعلها الشغل الشاغل للعلماء المسلمين. واعتبر المؤلف الإيمان إسلاماً داخلياً في مقابل الإسلام الخارجي المتعلق بإظهار الطاعات. وفرّق بين الإسلام بما هو تسليم لله والإسلام بما هو تسليم لأوامره، واستأنس في ذلك بآيات قرآنية تتحدّث عن الإسلام والإيمان وبآراء أبرز علماء المسلمين السنّة والشيعة. اهتم الفصل الثاني من الكتاب ب «الدين في إيران القروسطية وبزوغ نجم الصفويين»، وحاول المؤلف من خلال هذا المبحث أن يضع المسألة في سياقها التاريخي والثقافي، فتحدث عن ثنائيات ساهمت بصفة أساسية في تشكيل الثقافة الفارسية الإسلامية تتعلق بالجوانية والبرانية، وأهل الباطن وأهل الظاهر، وأهل الكشف وأهل النقل، والصوفي والفقيه. وبيّن أن الجوانيّ «هو العالم المسلم الذي يركز اهتمامه على أصول الإيمان وبخاصة على اكتساب المعرفة بالله وصفاته». تحدّث تيرنر في هذا الفصل عن قيام الدولة الصفوية بدايةً من دخول إسماعيل القائد الصفوي تبريز، وتنصيب نفسه شاهاً. ولا يعكس اعتناق إسماعيل شاه المذهب الشيعي الاثني عشري واعتماده مذهباً رسمياً للبلاد خياراً فكرياً عقدياً بقدر ما يكشف خطة استراتيجية في بسط النفوذ، وتحقيق الهيمنة السياسية والاقتصادية والعسكرية، واستطاع أن يرصد هذه الخلفيات من خلال دراسة المرحلة الصفوية، وتأثيراتها العقدية والسياسية، ولا يمكن تمثل هذا التحول من دون النظر في وضع المذهب الاثني عشري في إيران قبل الصفويين، وفنّد الباحث أقوال نور الله الشوشتري الذي بذل قصارى جهده لإثبات أن إيران كانت إمامية بمعظمها قبل الصفويين، على رغم أن إيران كانت في معظمها سنية صوفية حتى أن إسماعيل عجز بعد فتحه عن العثور على أي مدونة عن المبادئ العامة للإمامية ما عدا مخطوطة يتيمة في الفقه كانت في مكتبة نائية في بلدة أردبيل في أذربيجان في بداية القرن الثامن الهجري. يعتبر الفصل الثالث من الكتاب محور العمل، إذ تناول فيه المؤلف «ترسيخ السلطة الصفوية ونهوض البرانية الإمامية»، وأكد أن إسماعيل الصفوي لم يكن مطلعاً على الفقه الإمامي وكان من أهل الغلوّ، وكان يدعي الربوبية ويعتقد الناس في خلوده. ورجح كولن تيرنر أن يكون اعتناق الصوفيين المذهب الإمامي ضرباً من ضروب التكتيك السياسي الذي يهدف إلى الحفاظ على الحكم. واحتج الباحث بقولٍ لأحد علماء الشيعة مفاده أن الصفويين لم يقيموا سلطانهم على أساس الإيمان ولا على الإسلام. وركز المؤلف على دور الشيخ الكركي العاملي في نشر المذهب الإمامي في إيران في عصر اسماعيل الصفوي، حتى أن بعضهم اعتقد أنه مؤسس الفكر الشيعي. كان الكركي متحمساً للصفويين إلى درجة أنه كتب رسالة يبيح فيها التقليد الفارسي القديم المتعلق بالسجود أمام الملك، وتحصل الكركي على امتيازات وعقارات بسبب ولائه المطلق للصفويين. وتابع المؤلف بدقة التحولات الفكرية والاجتماعية التي صاحبت إعلان الصفويين تشيعهم، واستقدامهم علماء الشيعة من جبل عامل وسورية والبحرين، فقد قمع الكركي التسنن وفرض التشهير المذهبي بالخلفاء الراشدين. وركز كولن تيرنر في هذا القسم من الكتاب على تواصل وفود علماء الإمامية العرب على إيران ومساهتمهم في نشر الفكر الإمامي وتغيير المشهد الثقافي في بلاد فارس، وصارت مبادئ الإمامية عنصراً أساسياً في خطبة الجمعة وهي عبارة عن مديح مفرط للأئمة. وتنبه تيرنر إلى مشكلة تعاني منها إيران حتى اليوم وهي الصراع بين الثقافة المحلية والثقافة الوافدة، واعتبره صراعاً بين طبقة الإكليروس والجماعة الدوغمائية، وتشمل الطبقة الأولى الوجهاء المحليين، بينما تشير الطبقة الثانية إلى فقهاء الإمامية الوافدين إلى البلاد في العصر الصفوي. ونشأ بين الفريقين صراع وحقد ما زالا متواصلين إلى يومنا هذا. ولئن ركّز العلماء العرب الوافدون على الفقه والعلوم النقلية، فإن العلماء المحليين اهتموا أكثر بالفلسفة والنحو والمنطق والرياضيات والفلك والأدب والشعر. وعموماً يمكن القول إنهم برعوا في العلوم العقلية أكثر من العلوم النقلية. واستطاع العلماء الوافدون السيطرة على المناصب الدينية المهمة في البلاد بعد أن كانت تحت سيطرة المحليين، واحتفظت الطبقة الأرستقراطية العلمانية، كما يسميها المؤلف بمنصب «الصدر». في الفصل الرابع يهتم المؤلف بمحمد باقر المجلسي، صاحب كتاب «بحار الأنوار» الذي يعتبر من أساسيات التقليد الشيعي، ولم يكن اختياره للمجلسي مصادفة، بل كان مقصوداً حقّ القصد، فالرجل يعتبر عصارة الثقافة الصفوية وصاحب الفضل في تدوين كل ما أصاب الفكر الشيعي من تحولات وانزياحات وتشويهات، تعاملت معها الأجيال اللاحقة باعتبارها حقائق ويقينيات، وكان المجلسي أبرز فقهاء الإمامية في آخر العصر الصفوي، ومؤسس «الأرثوذكسية الجديدة»، حتى أن أحد النقاد وسم الفكر الشيعي بالفكر المجلسي. وبعد تعيينه «شيخ الإسلام» حارب المجلسي السُنة والصوفية وحطم الأصنام داخل المعابد الهندوسية، ويرجع المؤلف سخط السنة على المجلسي إلى قمعه الشديد لهم، ومن ذلك أنه استصدر قراراً بطرد الصوفية من العاصمة. ثم ختم المؤلف الكتاب بفصل خامس عنونه ب «البرانية تحت المجهر: عقيدتا الانتظار والرجعة عند الإمامية»، وكان هذا الفصل بمثابة القسم التأليفي، إذ وقف فيه المؤلّف عند أهم الانزياحات التي لحقت بالفكر الشيعي في العصر الصفوي، فتناول فكرة المهدي مثلما تجلت في الطرح الشيعي عموماً والأدبيات الصفوية بخاصة، وقارنها بما جاء في بقية الأديان. وفي هذا السياق، بحث تيرنر في مفهوم الانتظار في الفكر الشيعي، ونظر في خلفياته الثقافية والتاريخية والنفسية، وركز اهتمامه في هذا الفصل أيضاً على كتاب «بحار الأنوار» الذي يعتبر من أهم ما كتب في تاريخ التشيع.