تكتسب الانتخابات البرلمانية العراقية المقبلة اهمية مضاعفة في اقليم كردستان لا لجهة دورها في تحديد مساحات الصراع حول مستقبل قضايا الخلاف العربي الكردي في العملية السياسية العراقية فقط، انما وقبل ذلك لجهة تحديد مساحة الصراع الكردي - الكردي الداخلي. الحملات الدعائية المبكرة التي غذتها سخونة هذا الصراع شملت اخيراً تبادل اتهامات استهدفت كما يبدو ظاهرة «الرموز» السياسية والحزبية لكونها ما زالت تشكل جوهر الوعي السياسي في الإقليم، وانعكست بعض ملامحها في محاولات إفشال حكومة اقليم كردستان الجديدة، التي شكلت خطواتها الأولى تحدياً لأسلوب ادارة الحكم التقليدي في الإقليم. وعلى العكس من اتجاه سياسي عربي يرحب ضمناً بانتشار التفكك السياسي داخل الإقليم باستخدام فرضية «اضعاف» الوزن الكردي عراقياً، فإن واقع الحال يشير الى ان هذا التفكك لو استشرى فإنه سيسمح بارتفاع سقف الاستثمار السياسي الداخلي في مفهوم التطرف والانعزال القومي على غرار الاستثمار الطائفي والمذهبي المكلف في بقية انحاء العراق، وسيقود الى نتائج كارثية على المستوى العراقي والإقليمي. وينطلق الفهم الأميركي لحساسية التوازنات الدقيقة داخل الإقليم الكردي من ضرورات دعم الجبهة التي تتبنى الوسطية السياسية والقومية من دون احداث تفكك كبير ومدمر في البنى السياسية التقليدية، لكن هذه الرؤية لا يمكنها ان تمنع تجليات الصراع التي تنتظر التعبير عن نفسها عبر معارك سياسية مقبلة. حزب طالباني .. التحدي الأصعب وإذا كان حزب الرئيس جلال طالباني «الاتحاد الوطني الكردستاني» قد خاض تحدي التفكك السياسي مبكراً خلال انتخابات برلمان الإقليم في تموز (يوليو) الماضي، وسيخوض التحديات الأصعب في الانتخابات العراقية المقبلة آذار (مارس) المقبل، فإن طبيعة تكوين الحزب وآلياته سمحت بتصدره ساحة الصراع الذي لن يتوقف في حدود هذا الحزب وسيمتد لا محالة الى كل الأحزاب الأخرى. والجوهر العام للأزمة مرتبط بفلسفة الحزب السياسي غير الناضجة على مستوى التجارب السياسية في المنطقة عموماً والتخصيب المستمر في «الرمز - القائد» كمعادل موضوعي للحزب والدولة والحكومة، لكن الأزمة على صعيدها الكردي تتعلق ايضاً بمقتضيات عدم حسم الأهداف الكردية الداخلية سواء على المستوى القومي او العراقي او في حدود شكل الحكم المقترح على المدى الطويل في الإقليم. والانتخابات الأخيرة التي افرزت قوة تيار «التغيير» بقيادة نوشروان مصطفى من داخل رحم «الاتحاد»، فتحت الباب واسعاً للتأويلات السياسية حول مستقبل حزب طالباني ما بعد الانتخابات البرلمانية العراقية وانتخابات مجالس المحافظات في الإقليم منتصف العام. وعلى الضفة الأخرى فإن «الحزب الديموقراطي الكردستاني» بقيادة مسعود برزاني محكوم هو الآخر بضرورات هذا الحراك السياسي، لجهة استعداده للتعامل مع ما ستسفر عنه نتائج صراع الوزن بين «الاتحاد» و «التغيير». ونيل تيار نوشروان مصطفى نحو ربع مقاعد البرلمان الكردي في انتخابات الإقليم الأخيرة، على رغم انه لم ينعكس عملياً على منظومة التحالف المتكافئ بين حزبي طالباني وبرزاني بدليل تولي «الاتحاد» رئاسة حكومة الإقليم، الا ان فهماً عاماً تولد بأن تلك المقاعد استقطعت عملياً من حصة حزب طالباني الفعلية، ما يبرر المعلومات عن اتصالات تجمع «الديموقراطي» ب «التغيير» على رغم الهوة السياسية التي تفصل بينهما تهيئ كما يبدو لاحتمالات متغيرات دراماتيكية تفرزها الانتخابات العراقية التي تقوم بالاستناد الى نظام «القائمة المفتوحة». و «الاتحاد الوطني» يخوض المعركة هذه المرة مستنداً الى نجاح تجربته في ادارة الإقليم عبر رؤية جديدة تصدى لها رئيس الحكومة الحالي برهم صالح تعتمد على ادخال منظومة «الحكم الرشيد» الى جوهر آليات عمل حكومة الإقليم عبر تحقيق استقلال الحكومة عن الأحزاب، وتوسيع قاعدة الرقابة المالية والإدارية على الأموال وتفعيل آليات النزاهة من جهة، وفتح ابواب حل الخلافات المستعصية بين الأكراد وحكومة بغداد في نطاق مقاربات تعتمد الوسطية السياسية والمهنية بديلاً من الاستثمار في الشعارات التصعيدية من جهة أخرى. وأعقب بين بغداد وأربيل عبر فرض آليات حل لمشكلة البيشمركة وعوائد الجمارك وفتح باب التسوية لأزمة العقود النفطية بالإضافة الى الإصلاحات المالية والتنظيمية الداخلية، انطلاق حملات اعلامية واسعة النطاق اخيراً قادها معارضو الحكومة وأيضاً حلفاؤها، لاستباق امكان استثمار «الاتحاد الوطني» نتائج نجاح حكومة برهم صالح انتخابياً. نظرية الرموز السياسية وبالانطلاق من نظرية «الرموز» التي تحصر الصراع السياسي في نطاق شخصنة حزبية، فإن النموذج الجديد الذي عكسه رئيس الحكومة الكردية كرجل ادارة يعتمد الرؤية التكنوقراطية، لم تكن في سياقها العام متلائمة مع النمط السائد في فهم مصطلح «الزعيم السياسي» باعتباره رجل شعارات وخطابات وقائداً بالدرجة الأساس. وينخرط الرئيس العراقي جلال طالباني بالإضافة الى صالح في نطاق جبهة متنامية في الإقليم تذهب الى تكريس المزيد من الانفتاح الكردي على الواقع العراقي بديلاً من الانعزال عنه. وكان لافتاً ان وسطية جبهة طالباني - صالح كانت «مكلفة» في نطاق تحولها داخلياً الى «تهمة» انتخابية، ما انعكس في نمط الشعارات التي صاحبت انتخابات تموز وأبرزها افتراض ان «انشغال الرجلين بمهماتهما في بغداد اضعف حزبهما وسمح بحدوث الانشقاقات فيه». وذلك الافتراض تم حقنه خلال الانتخابات الماضية بمسحة من مغازلة «التطرف القومي» قبل بثه الى الشارع ليتحول الى اتهام مباشر يفسر خطورة فتح منافذ الاستثمار في «التطرف» لإدارة صراع داخلي. وبالاختلاف في التوقيت والزمن المتاح فإن نهاية عصر «الرموز السياسية» ليس «قدراً» كردياً حصرياً، أكثر من كونه «قدراً» عراقياً وإقليمياً وربما عالمياً ايضاً. قلق في الخريطة تتشكل الخريطة السياسية الكردية نمطياً عبر استقطابين رئيسين هما جبهة «الاتحاد الوطني الكردستاني» التي تشكلت في أواسط السبعينات من مجموعة من الأحزاب والتيارات اليسارية التي تبنت لاحقاً مفهوم «الاشتراكية الدولية»، فيما تستند الجبهة الثانية التي تمثل الحزب «الديموقراطي الكردستاني» الى ارث سياسي وقبلي لرمز الحركة الكردية المعاصرة الملا مصطفى بارازاني بالإضافة الى استقطابات اقل مساحة لحركات إسلامية وتيار شيوعي ويساري. وباستخدام مقاربة «الرموز السياسية» نفسها فإن طبيعة التكوين السياسي لتيار «الاتحاد الوطني الكردستاني» انتج عدداً اكبر من القيادات التي تحولت الى رموز بفعل دورها في القتال ضد النظام السابق مثل جلال طالباني ونوشروان مصطفى وكوسرت رسول وآخرين، فيما لم تسمح الهيكلية التنظيمية ل «الديموقراطي» سوى باجتماع مفهوم «الرمز السياسي» بشخصية نجل الملا مصطفى، مسعود بارزاني الذي حصد الرمزية السياسية والقبلية في الإقليم ما يفسر استقرار الإطار العام لحزب بارازاني مقارنة بحزب طالباني الذي تعرض لانشقاقات متواصلة خلال الأعوام السابقة وهو منفتح كما يبدو على المزيد من هذه الانشقاقات. والمقاربة التي خلصت اليها زعامات «الاتحاد» في مواجهة تحديات الانشقاق تمثلت أخيراً في تشكيل مجلس قيادة اكبر من منظومة القيادات الرئيسة وأصغر من المؤتمر العام وصفها طالباني بأنها برلمان داخلي للحزب. والتخلص من ضغوط «الرمز السياسي» الذي تتبناه منظومة طالباني - برهم صالح تبدو في واقع الحال المدخل الوحيد لضمان استمرار فاعلية «الاتحاد الوطني» لكنها في الوقت نفسه لن تقود الى نتائج سريعة، مقارنة بالتحديات التي تمثلها الجبهات المنافسة التي ما زالت تستعين بالرمزية السياسية لضرب قواعد بعضها، ما يكرس قلقاً متوقعاً في الخريطة السياسية الكردية على المدى المنظور. وعلى عكس نزعة التحزب والتمظهر في تيارات وتحالفات جديدة على صعيد الصراع الانتخابي العراقي فإن ظهور تيارات سياسية جديدة في إقليم كردستان تتبنى توجهات مختلفة تبدو مهمة طويلة الأمد. وتوصيف تيار «التغيير» باعتباره حركة «إصلاحية» جديدة، ليس دقيقاً، فالتيار وحتى وقت قريب كان يرفع شعار الانتفاضة من داخل «الاتحاد الوطني الكردستاني» ويطرح نفسه كممثل بديل للاتحاد مستعيناً بأهدافه وأسس تنظيمه وشعاراته وأدبياته في حين ان وزن الحركات الإسلامية وأيضاً الاستقطابات اليسارية لبعض الأحزاب السياسية التقليدية في الإقليم سيكون محدداً. والقلق على الاستقرار الحزبي في الإقليم، لا يلغي توجهات واضحة المعالم لانبثاق حركات سياسية جديدة تماماً تستند الى فكرة إنهاء مرحلة «الرموز السياسية» برمتها والدخول بمفهوم الحزب السياسي الى مرحلة ما بعد الحزب القومي. لكن نمو حركات التنوع السياسي في الإقليم لمصلحة انبثاق قوى ليبرالية يرتبط مفصلياً على المدى البعيد بتوضح معالم صراع البقاء الذي يخوضه الإقليم في نطاق وضعه وتوصيفه عراقياً وعلى صعيد علاقته بمجمل الحركات الكردية الإقليمية، وأيضاً في نطاق تبلور ملامح المشروع الكردي باعتباره مشروعاً فيدرالياً عراقياً أم مشروعاً قومياً يستنهض الحركة الكردية في عموم المنطقة. لكن نزعة التفتت الحزبي عراقياً وكردياً ليست بالضرورة حراكاً سياسياً لإعادة تأسيس الخريطة وفق بناء قاعدة صراع اكثر ديموقراطية، بل هي على المستويين أيضاً قد تكون آلية تهديد لقاعدة الصراع السلمي، والضمانة المتاحة ان يكون التفتت انعكاساً لثقافة سياسية تجنح الى فهم الحزب السياسي بعيداً من الظل الايديولوجي والفئوي وهو هدف بعيد المنال قريباً. والحديث عن التفتت باعتباره نمط تكريس للتطرف السياسي ومحاولات إنتاج رموز بديلة مبرر أيضاً بالنزعة الشرق أوسطية للفهم البدائي للحزب السياسي كمرادف للاستئثار بالسلطة وليس المشاركة فيها.