شهر بعد بدء عرضه في فرنسا، تصدّر فيلم «ماسان» أو «حطب الحرق»، دور العرض الهندية ليحقق حماساً نقدياً واهتماماً صحافياً لافتاً، وأيضاً شعبية «نسبية» في شبه قارة تشق فيها أفلام كهذه طريقها بصعوبة بالغة نحو الجماهير. إذ بالنسبة لكثيرين في الشرق والغرب تقتصر السينما الهندية على أفلام بوليوود المنتجة في «مومباي»، لكن «ماسان» الذي عرض قبل شهور، في تظاهرة «نظرة ما» في الدورة الأخيرة لمهرجان «كان»، يثبت من جديد أن الفن السابع الهندي لا يمكن أن يُختزل بسينما بوليوود ومذاقها العسلي الشديد الحلاوة كما يصفها بعضهم. فثمة سينما اليوم في الهند تبتعد أكثر فأكثر عن تلك المعروفة، لتذهب في الكثير من الأحيان نحو النقيض لاسيما لجهة عنفها («عصابة واسي بور»)، أو سوداويتها («مس لافلي»)، وتخليها بالكامل عن الرقص والغناء («ماسان»). في «ماسان» تجنب المخرج نيراج غيوان ما أمكنه أساليب سينما بوليوود، فمن وجهة نظره كما صرح الى صحيفة هندية أن الناس اليوم في الهند ينجذبون أكثر فأكثر نحو أفلام تتناول مواضيع حقيقية وتعتمد على سيناريو متين، كما أنهم بدأوا بالضجر من الغناء والرقص. لهذا اختفت هذه «البهارات» في فيلمه هذا. بالتأكيد، في قصة من هذا الشكل لا يجد الرقص مكاناً. عبر شخصياته المتعددة، من شاب يغرق في حب يائس لفتاة ليست من طبقته، إلى طالبة شابة تعيش معذبة لشعورها بالذنب بعد انتحار حبيبها، مروراً بأب يفقد وازعه الأخلاقي بسبب المال، ومفتش شرطة جشع ومرتشٍ... يرسم الفيلم لوحة سوداوية لهند متأرجحة بين ما يفرضه العصر وما تفرضه التقاليد، هذه التقاليد التي تعاقب بقسوة هؤلاء الذين يتجرأون على تجاوز المعايير الأخلاقية. على ضفاف «الغانغا» تطالعنا منذ بداية الفيلم شخصيات مشتتة تتطلع لمستقبل أقل ظلمة تتقاطع مصائرها على... ضفاف (أو ما يدعى «غات» بالهندية) النهر المقدس «الغانج» (الغانغا بالهندي) في مدينة «بنارس» (فراناسي) حيث تُحرق أجساد الموتى وفق التقاليد الهندوسية. «ماسان» او «الحطب» هي كلمة عامية في «بنارس» يوصف بها الحطب الذي يحرق عليه الأموات ليتحولوا إلى رماد. ومن هنا فإن «بنارس» المقدسة معروفة بكونها مدينة الموت، ويقال في الهند إن من يموت فيها سيعثر على الرحمة أو السلامة الأبدية. لهذا اختار المخرج جعل عقدة الفيلم فيها والحديث عن طبقة دنيا من الهندوس «شاندال» يساعد أفرادها في تحضير الطقوس الخاصة بالجنازة. هم يقطنون «بنارس» وحين كانوا يريدون العودة لقراهم، كان عليهم قرع جرس في مدخل القرية لينبهوا السكان لقدومهم فيغادر هؤلاء القرية أو يبقون حبيسي البيوت. ولدينا هنا في الفيلم الشاب «ديباك»( فيكي كوشال) الذي ينتمي إلى هذه الطبقة ويقع في حب «شالو» المنتسبة إلى طبقة أعلى. وفي الهند، حيث يجب أن يتمّ الزواج بين أفراد من الطبقة نفسها لا تجري الأمور كما يخطّط الحبيبان. تتوازى في الفيلم قصتان لا يتقاطع بطلاهما سوى في مشهد النهاية، فهناك أيضاً «ديفي» الجامعية الذكية والمستقلة الشخصية (رتشا تشدا) التي تتعثر حياتها بعد أن داهم مفتش شرطة يبحث عن الفضائح فندقاً ليمسكها مع صديقها في «الجرم المشهود»، لينتحر هذا الأخير خوفاً من انكشاف أمره، وليبدأ بعدها المفتش بابتزاز والد الفتاة الخائف من الفضيحة في المجتمع الضيق لبنارس، هو الأستاذ الجامعي المتقاعد الذي تحوّل إلى صاحب بسطة صغيرة لبيع مستلزمات الحج على «الغات». لعب المخرج على الغموض في المشاهد الأولى، بحيث بدت تحضيرات «ديفي» للخروج من بيتها بعد مشاهدتها فيلماً جنسياً مثيرة للشبهة، كأنها إيحاء بأن الفتاة ذاهبة لتأدية عمل ما «خاص» وليس للقاء حبيب. وتابع المخرج هذا الأسلوب لحين تدخل الشرطة لينحسر الغموض تدريجياً. اتسم الإخراج بالشاعرية لتحريك عواطف وأحاسيس المشاهد واعتمد على تعابير الوجه وقوة حضور الشخصيات والأمكنة مركّزاً على التفاصيل الصغيرة واللقطات المقربة. وعلى رغم اختيار المخرج التصوير في ديكور طبيعي «لإظهار حقيقة هذا العالم الذي تعيشه الشخصيات من دون تجميل» كما صرح إلى جريدة هندية، فإنه لم يقع في النمطية، ولم يدفعه التصوير في مدينة يحجّ إليها الملايين للتركيز على المعابد التي تزخر بها والاحتفالات الدينية التي تُحيا فيها. لقد التقط غيوان الروح الحقيقية لهذه المدينة العجيبة الغامضة وتمكّن بكل حرفية من تمريرها للمشاهد ما شكّل أقوى نقاط الفيلم على الإطلاق. وجاء أداء الأبطال ليعزز من تأثير الفيلم، فمرّر هؤلاء عواطف صادقة وواقعية. وباستثناء بضعة من نجوم بوليوود، اختيرت بقية الممثلين من المدينة وتمّ تدريبهم أياماً عدة. فرضت «رتشا تشدا» حضورها في كل مشهد أدّته فكانت تبدو منكوبة لشعورها بالذنب لموت حبيبها وواثقة بنفسها في الآن ذاته، هي النجمة القادمة من بوليوود وأكثر الوجوه شعبية في الفيلم بل ربما الوجه الوحيد المعروف في الهند. لذلك اعتبر بعض النقاد الهنود أنها ستحمل الفيلم على كتفيها فيما هي ردت بالقول «ليس على كتفيّ ولكن في قلبي». أما «فيكي كوشال»، الذي انتكب هو الأخر بفقدان حبيبته فتحلى أداؤه بطزاجة الدور الأول. وهو صديق للمخرج ومساعد مخرج. وكان قضى وقتاً طويلاً عند ضفة «الغانج» ليفهم الشخصية ويتعمق فيها، وراقب طقوس الحرق التي يصفها ب»الشيء الفظيع لاسيما بعد هبوط العتمة». هندي على اية حال! درس المخرج نيراج غيوان التجارة قبل العمل في السينما وعمل مساعداً للمخرج أنوراج كاشياب في «عصابات واسي بور» الرائع، ثم شعر بضرورة أن يعمل فيلمه الخاص. جاءته فكرة « ماسان» بعد أن قضى أربعة أشهر في «بنارس» خلال تصوير «عصابات واسي بور»، فاستعان بكاتب له خبرته ليكتب القصة الفيلم. وبما أن مواضيعه اجتماعية ويسعى إلى ملامسة الواقع وتقديم مواقف حقيقية، ذهب غيوان إلى المدينة المقدسة التي يحج إليها الهندوس لملاقاة أشخاص يقتربون من شخصياته، وراهن على تطور ذائقة الناس في الهند وتحريك عواطفهم وأحاسيسهم من خلال سرد المعاناة من فقدان عزيز والتي هي برأيه ليست معادلة فقط لليأس المطلق أو الضيق والفجيعة بل «مصدر تعلم تجعلنا أكثر حكمة وقدرة على خلق أشياء إيجابية». الفيلم إنتاج فرنسي هندي مشترك حاز جائزة لجنة التحكيم الخاصة في « نظرة ما» وجائزة « فيبرسي» الدولية للنقاد. وسبقته سمعته للهند ففتحت له الأبواب بأوسع مما يفتح في العادة لهذا النوع ولكن مع وضع لائحة عليه «للكبار فقط». وألحّ نقاد على ضرورة عدم تفويته وأعرب نجوم كبار من بوليوود مثل شعبانة عزمي وأميتاب باتشان عن إعجابهم به ووصفوه بالعظمة والتميز. لكن بعضهم حضّر تهماً جاهزة معيداً الجوائز والسمعة التي نالها الفيلم عالمياً إلى «حديثه عن الفقر»، مع أن ذلك لم يبد مقحماً في الفيلم ولا أساسياً، فهو فيلم عن الشخصيات وقصصها ويبيّن مدينة صغيرة ورومانسيتها من جوانب وتحت أضواء عدة. وهو يظهر الطبقات الدنيا والمتوسطة. إنما على رغم ما أثاره الفيلم من نجاح في «كان» واهتمام إعلامي لافت في الهند فإنه، وفق أحد نقاد صحيفة هندية، لن يعجب جمهور «الماسالا»(بالهندية البهارات) لأنه معتم وواقعي لدرجة. وعلى ما يبدو فإن النسخة الهندية فيها بهارات أكثر، والمشاهد الأوربي لن يرى ما أضيف للنسخة الهندية. بيد أن المخرج أعلن أنه لم يخن أسلوبه في التعبير عن العواطف في النسختين وقال إنه أظهره «كما نفعل في الهند»، ففي الأفلام الأوروبية «يعبرون عن العواطف داخلياً وفي ثقافتهم لا يظهرون ما يشعرون به عادة». ولذلك احتفظ بالكثير من المشاهد للمشاهد الهندي لأن الفيلم هو... « فيلم هندي على أية حال»!