بدت اللقطة الأخيرة من الفيلم الوثائقي «كونونغو: دارفوريون في المنفى» الذي عرض أخيراً على شاشة «الحرة» حين راح الأطفال يركضون بفرح، ضرورية ومدروسة لا للتخفيف من بشاعة المأساة، إنما لتحريرها من الصورة النمطية الجامدة، التي طالما طبعت الأعمال التي تصور المآسي، إذ تبدأ قاتمة وتنتهي أكثر قتامة. ذلك الفرح الطفولي وتلك الابتسامة الناصعة لنهلة بابكر، إحدى شخصيات الفيلم الرئيسية، تفتح أفقاً على احتمال للبهجة، وسط تيه إنساني بالغ القسوة. صنفت الأممالمتحدة، بحسب الفيلم، ما حدث للدارفوريين بأنها من أقسى المآسي الإنسانية. يزج «كونونغو»- وهو اسم المخيم أيضاً- الذي أنتجه الكاتب والإعلامي العماني محمد اليحيائي، بالمشاهد منذ اللقطة الأولى، في تراجيديا الصحراء التشادية، حيث الآلاف من اللاجئين يعيشون في خيام وأكواخ من الخشب والطين، شيدت في العراء وتحت الشجر، يعيشون على الحلم والذكرى، حلم انتهاء زمن اللجوء، وذكرى الأموات من أقربائهم التي لا تفارقهم ويعجزون عن التخلص منها. لم يحاول الفيلم تضخيم المأساة، مع أنها ضخمة بما يكفي لأن تلفت أنظار العالم كله. ولم يسعَ إلى المزايدة على قضية الدارفوريين، واكتفى بنقل ما هو موجود فعلاً: لاجئون ممنوعون من مغادرة المخيم، الذي يبعد 55 كيلومتراً فقط من موطنهم دارفور، طبقاً لقوانين الأممالمتحدة، ومن الانخراط في الحياة الخارجية في المجتمع التشادي، إضافة إلى معاناتهم من نقص الحاجات الأساسية. في الفيلم نشاهد رجلاً يُشهر بحزن جمجمتين بشريتين في وجه الكاميرا. وجوه أطفال باكية، نساء بائسات، شيوخ في أرذل العمر. صحراء ممتدة... رجال ملثمون فوق أحصنة يحملون البنادق. مجاميع متروكة في العراء. يرتبط المستقبل عند هؤلاء اللاجئين، وفقاً للفيلم، بنهاية زمن اللجوء وبداية زمن العودة. «المستقبل بين زمنين حاضر في المنفى وغائب في الوطن. لكن زمن العودة إلى الوطن يحضر في حياتهم بقوة وبخوف أيضاً». لا يرغبون في العودة من دون توفير حماية لأرواحهم. عمن كان يتقصى محمد اليحيائي في فيلمه الأول: عن الجلاد أم الضحية؟ هل يسعى إلى فضح الجلاد وإدانته أم التعاطف مع الضحية وإعطائها المساحة، لتكتب بالصوت والصورة، تراجيديا النفي وحياة الشتات؟ تساؤلات لا تغيب عن بال المشاهد خلال عرض الشريط. أجاد اليحيائي كثيراً في اختيار شخصياته. أربع شخصيات: نهلة عمر بابكر (شابة) وخديجة محمد خميس (مسنّة) ويعقوب عبدالله عمر وعيسى التيجاني (شيخ الشيوخ في المخيم) ليكونوا ناطقين بمأساة الدارفوريين، يضيئون أبعادها وخبايا متاهاتها. تكشف هذه الشخصيات عن وعي فطري، بعيداً من تعقيدات السياسة، وعن شعور حاد بالإهمال والترك إلى مصائرهم. يتحدث هؤلاء عن جرح عميق وخذلان من التجاهل العربي لهم. عندما عرف الدارفوريون أن المذيع عربي، شعروا بالقلق وشكوا في أن يكون عميلاً، وإلا ما الذي يأتي بعربي؟ قبل أن يأتي اليحيائي كان هؤلاء قد يئسوا تماماً من أي تحرك من طرف العرب. يسأل الفيلم الضمير العربي ويجلو الغبار عن تفاصيل بقيت طي الكتمان. يسرد الفيلم، الذي جاء متوازناً ونمّ عن جماليات سينمائية لفتت الانتباه، للمرة الأولى فصولاً من تاريخ سلطنة دارفور، قبل إلحاقها بالسودان عام 1917، بقرار بريطاني، وقصة آخر سلاطينها «علي دينار» الذي، بحسب الفيلم، كان أول من سيّر قافلة كَسْي الكعبة، وأمن الغذاء لحجاب بيت الله خلال ما يعرف ب «قدح السلطان علي دينار»، هذا السلطان الذي أضمر عداء لبريطانيا، فكلفه حياته واستقلال بلده. في 45 دقيقة، يلخص الشريط، عبر صورة وسرد مكثفين، عذاب ست سنوات من حياة اللاجئين في الصحراء، ويتناول بداية الصراع التي كانت عرقية قبلية، بسبب التنافس على الموارد بين القبائل المستقرة، والقبائل الرحل التي وفدت إلى الإقليم. وهناك وجه سياسي، مصدره شعور الدارفوريين بالتهميش والعزلة والإهمال. ثم نشوب الصراع المسلح في عام 2003 بين جماعة دارفورية معارضة، وميليشيا الجنجاويد «المدعومة» مخلفاً نحو ثلاثة ملايين بين قتيل ومغتصب ومكره على النفي. في كل مرة تنطلق تلك الموسيقى المؤثرة، في تصاعد عميق، يتهيأ المشاهد لمطالعة فصل جديد في التراجيديا الدارفورية. حتى اختلاف نبرة الصوت عند كل الشخصيات الأربع، خفوتها وعلوها، صنع إيقاعاً للفيلم وجعله معبراً. «تركنا كل شيء، بيوتنا أكلتها النار. رجال ملثمون يركبون الأحصنة، يحملون البنادق، الطائرات تأتي من فوق وتقصف... يهجمون علينا ويقصفون. كثير من أولادنا ماتوا»... هكذا تروي خديجة محمد خميس، بحسرة تأكل قلبها، انطلاق الحدث الرهيب. يتفرج المشاهد على مقاومة هؤلاء للمحو، والنفي عبر التمسك، لا بحياتهم وممارستها في حدود المتاح، إنما أيضاً من خلال الفرح والحنين الجارف إلى الوطن. عبّر الفيلم عن اهتمام أساسي بجمالية الصورة من خلال توزيع الظل والضوء والأشخاص داخل الكادر. ولعب المونتاج دوراً بارزاً في عدم تسرب الملل إلى المشاهد، إذ ظل الفيلم مشدوداً ومكثفاً، فلم يطغ تعليق اليحيائي، فيما تناوبت الشخصيات الأربع الرئيسة، وأخرى ثانوية، مساحة الحكي. الموسيقى، والصمت أحياناً، وانطلاق التعليق في كل مرة من لحظة بعينها، صنع تعبيرية عميقة، وفتح الفيلم على أبعاد مهمة تتخطى المهمة الوثائقية، إلى صناعة عمل سينمائي يعطي انتباهاً لكل الحالات والعواطف الإنسانية. يذكر انتظار هؤلاء اللاجئين العودة إلى الوطن، بمسرحية بيكيت الذائعة «في انتظار غودو» أو لعل عنواناً مثل «في انتظار البرابرة» قصيدة كفافيس المشهورة، لن يغيب بدوره عن بال المشاهد. ولئن بدا هذا الانتظار ضرباً من العبث، في ظل التجاهل والتهميش، إلا أنه يعني لهم قشة الأمل، بل الحياة نفسها، التي يتمسكون بها حتى آخر لحظة.