الشعرية الطاغية المنحازة إلى جماليات البساطة والمرتمية، بقصد أو من دون، في حضن الحضور على المستويات كافة جعلت من قصائد ديوان «جالساً مع وحدك» (دار مسعى) للشاعر السعودي محمد حبيبي، ما يشبه صوراً فوتوغرافية متلاحقة على رغم أن الشاعر لم يضغط زر الكاميرا بل ضغط زناد الذكرى ليصبح الانحياز إلى المدهش والمرئي الذي هو هو غير مرئي في آن معاً. ولعلنا نلحظ من البداية أن الإيحاء الدلالي للعنوان يعبر عن معنى تأطيري دال على المدى التخيلي للديوان بأكمله؛ فالمفارقة المراوغة متعددة الوظائف التي تقول الشيء ولا تقوله في الوقت نفسه تطل علينا منذ الوهلة الأولى وحتى النهاية، فهذا الذي «يجلس» يباغتنا بأنه يجلس مع اللا أحد في مفارقة دالة على ثنائية الحضور والغياب التي تسيطر عليه، كما أنه يحيل إلى دلالات لغوية وفلسفية تشير إلى البعد والاغتراب واحتجاج الأنا على «الآخر» مقررة الجلوس مع وحدها، كما تبدو المفارقة في تصدير الديوان بمقولة للشاعر شيركو بيكه سي: «مهما كان ثقب الإبرة ضيقاً، يمكن تمرير خيط الشعر منه؛ حتى في الظلام» لتتبدى من لحظة الولوج للديوان ثنائية الأمل واليأس في بنية ضدية غير قابلة للتفتت. يقول: لم تضغظ زر الكاميرا/ لحظة صوبت الزوم عليهم يبتسمون بكل/ براءة/ كانوا خمسة مخلوقات لا أبهج». والغرفة كانت تتسع لكل العالم (بابلو نيرودا، جيفارا، غاندي) في تناص يعد بمثابة أسلوب شعري فاعل واستفزاز حقيقي لعقل المتلقي يدفعه إلى البحث عن مدلول ما وراء المفردة والتركيب اللغوي، وهو أيضاً يشي بموقف الشاعر من الحياة التي تحمل رغبات في البحث عن الخلاص من «الآخر»، عاكساً ذاته المتشظية حتى على مستوى استخدام مزيج من لغة حياة يومية مفعمة بالدلالات ومفردات تبدو معجمية في خطابين لغويين يمزجان بين لغة التعبير السامي ولغة التعبير باليومي والمعيش فعلبة كبريت/مكوى شعر/رسامين فوتوغرافيين/زناد الذكرى/ جنباً إلى جنب مع/ «أرقهم كلف الغصن المخلوع اليابس/ أرجل العنكبوت علقنا خيوطاتها /أطيافها القزحية». لم تعتمد البنية الشعرية في الديوان على اللغة وحدها، لكنها اعتمدت أيضاً على أسلوب المفارقة لتصوير معاناته والتعبير عن قضاياه ومواقفه، فدال «القبلة» يشير إلى الآخر المرأة/الذات، أما دال القطيفة والمرأة التي تغمز الموبايل وذباب الحاوية فيشير إلى مجتمع مفعم بالانفصام النفسي والشعور بالعزلة في لغة ساردة مكتظة بالتساؤلات التي تعكس الحيرة والملل والعناء الذي يعاني منه الشاعر جراء اغترابه الداخلي، مانحاً للذات أحياناً بُعدها المأسوي، كاشفاً عن إحساس دفين وانحياز إلى طفولته الأولى التي تكشف عن مفارقات دالة؛ فبينما نرى امرأة تداعب «الموبايل» نرى أخرى لا تملك إلا أن تبحث عن بقايا الطعام، وبينما نرى ابن الثانية عشرة يجهز أدواته المدرسية نرى ابن العاشرة مع صغري تشبهه-على الناحية الأخرى يعدان حصاد عرقهما من «ريالات معروقة في إدانة واضحة لتوغل المدنية، صانعاً من ذلك كله صوراً فوتوغرافية مدهشة قادرة لا على إثارة الدهشة فحسب، بل مؤكدة أن الأطفال -بحسب بعضهم على كل حال- يعرفون كل شيء: «ليل العودة للمدرسة/ بين الأدوات «الروكو» والباركر»/ يقف صبي الاثني عشر ربيعاً/ يختار لصغرى تشبهه علبة «هندسة» وحقيبة «فله»/ بينما في الخارج: «طفل في العاشرة وصغرى تشبهه/ وقفا ليعدا بأصابع كفين صغيرين وخشنين/ ريالات معروقة/ أجرهما عن جر ودفع العربات». ثم تساؤلات لا تقف عند حد: «ماذا يحدث/ حين تفكر في تغيير أثاث المنزل لحظة ملل؟/ ماذا يحدث حين سيبدأ عمال فك الأيام؟/ ماذا يحدث حين تخلي عشرات الآهات؟». وغيرها من التساؤلات التي يطرحها الشاعر صانعاً حيرة نصه، فاتحاً مجالات التأويل أم قارئاً سيبدو مرهقاً ليصبح الأمر، كما هو بحسب ميشيل فوكو «لا وجود لنص يؤول وإنما هناك تأويل في حاجة إلى تأويل جديد». إذ: كيف تتحول لحظات الحب إلى جثامين فككها عمال ومضوا؟ وكيف لماء أن يجرح خاصرة الصنبور؟ لكن ذلك الذي يمتلئ حيرة نراه وقد امتلأ بطاقة شعرية لا تخلو من السرد ولا تتخلى عنه عامرة بحضور طاغ للذات المتوجسة حيرة فهو يحكي في لغة ساردة علائقه بعالمه المكاني والزماني من دون أن يسمح لذاته بأن تهجم على «وحدك» «الآخر» الجالس معه، ف«الأنا» التي لا تهتز للجو العاصف في مواجهة «مع «الآخر» «وحدك» الذي تثيره السحب إلى حد الرعب يقول: لم يخفق قلبي/ للجو العاصف/ مع أن السحب تثيرك حد الرعب». يبدو «الانزياح» غائباً أحياناً في معظم قصائد الديوان انحيازاً إلى لغة مشهدية غير متورطة شعورياً مكتفيا بالتعبير عن مشاهداته اليومية ووقائعه المعيشة، وإن وجدناه أحياناً صانعاً المفارقة ذاتها على المستوى الجمالي لقصائد الديوان، مخترقاً السائد والمألوف في مشاهد مثل: سقينا أقلام الحبر مرارتها/يرضع من خصر الشجرة». وأخيراً فإننا لسنا أمام نص في حاجة إلى تأويل بل -بحسب ميشيل فوكو- أمام تأويل بحاجة إلى تأويل جديد؛ فالنص مفتوح على تأويلات عدة، وهو ما يجعل القارئ قارئاً نشيطاً وعليه ف«حبيبي «هنا» لا يجلس وحده بل مع ذاته التي هي خلاص من التشظي الروحي، الذي لا تملك إلا أن تمنحه نفسك، فتجلس من دون أي شعور بالفقد معه فكأنك الآخر الذي يفرض نفسه عليه، ليشاركه روحه المفعمة بالشعر والحياة والشك بأن الحياة حياة.