في كتاب «حوارات ونصوص» الصادر عن دار الحوار يقدم المترجم محمد ميلاد مجموعة من الحوارات النادرة التي أجريت مع اثنين من أهم المفكرين في القرن العشرين، وهما ميشيل فوكو، وجاك دريدا. يُحسب كلاهما على جيل الستينات في فرنسا، وهو الجيل الذي لمع فيه بالإضافة إليهما عدد من الأسماء أمثال بلانشو وبارت ولاكان وألتوسيير وسارة كوفمان، قدموا جميعهم منتجاً ثورياً لا يمكن نكرانه سواء في تاريخ الأدب أو الفكر أو علم النفس أو علوم اللغة، لكن يظل كل من فوكو ودريدا. الأكثر ثراء من بين هؤلاء والأشد قدرة على إثارة الانتباه والحيرة في الوقت نفسه. في العام 2004، أجرى جون بيرنيوم حواراً ثميناً مع جاك دريدا، تناول التفكيك باستفاضة، واللغة والهوية والسياسة وفن العيش، وعلى رغم ذلك لم ينجُ الحوار من تلك السمة التي تميز النهايات، ويستطيع القارئ أن يشتم رائحة الموت من أول سطر، لذا كان دريدا، الذي مات قبل انتهاء العام نفسه، مستفيضاً في اعترافاته إلى أبعد مدى. وعلى الطرف الآخر من الكتاب، يقع حوار آخر أقل زخماً بالتفاصيل الإنسانية، كان فوكو قد سبق صاحبه دريدا إلى الموت بعشرين عاماً، وكان هو أيضاً على موعد مع صحافي آخر هو روجيه بول دروا ليحكي في حرص شديد مسيرته كمفكر متجنباً الاعترافات الشخصية بأقصى قدر ممكن، وهي نظرية فوكو التي لم يغيرها طيلة حياته، «أعتقد أن سيرة فوكو كإنسان لا ترقى إلى مستوى سيرة كتبه»، هكذا كان يرى مسيرة حياته غير مثيرة للاهتمام بنفس قدر الضجة الفكرية التي أحدثها الكثير من كتاباته. كان فوكو ماكراً بالقدر الكافي الذي يجعله يقول ذلك. حتى موت فوكو لم يكن حدثاً عادياً، فقد مات ضحية الإيدز في إحدى المستشفيات في 25 حزيران (يونيو) 1984، كان قد قضى ما بين عامي 1955 و1960 مقيماً في مستشفيات الأمراض النفسية والعقلية من أجل كتابة مؤلفه الأشهر والأهم «تاريخ الجنون»، تلاه بعد ذلك بسنوات دخوله في كتابة تاريخ الجنسانية بأجزائه الثلاثة، انقضت خلالها مدة مقاربة من سابقتها في التنقل بين دوائر مغلقة على مجموعات سرية أو علنية تميزها ميول وممارسات جنسية مغايرة، وبطريقة دائرية تماما فإن ميشيل فوكو يتحاشى التحدث عن هذه الأمور ليترك الضوء مسلطاً على كتبه فقط. وبالذهاب لتفاصيل هذه الحياة الحافلة المثيرة فإنها لا تحيلنا إلا إلى ميشيل فوكو المفكر لا الإنسان. هل كل ما كان يفعله بداية من إلقاء أول محاضرة في شبابه في «الكوليج دي فرانس»، حتى كتابه الأخير، لا يتعلق إلا بعالم الفكر؟ الإجابة بالطبع هي نعم، ففوكو لم يكن غير كتبه. هكذا يبدو فوكو متخلياً عن أي هوية إلا هويته كمفكر و «صانع أسهم نارية»، فهكذا يصف نفسه للصحافي روجيه نافياً أن يكون مؤرخاً آخر، كما أحب أن يصفه البعض، فهو يصر على أنه يكتب التاريخ لكن على طريقته الخاصة، و «أنه يفتقد الحس التاريخي»، كما أحب أن يصفه سارتر، «إنني أصنع شيئاً صالحاً في النهاية لضرب حصار، لشن حرب، للقيام بعمل تخريبي، لكنني أدافع عن إمكانية إسقاط الجدران، ومن ثم إمكانية العبور والتقدم»، قاصداً بذلك عمله الدؤوب لتقويض المفاهيم والبني الفكرية القديمة إذا لم تثبت جدارتها وصلابتها أمام معاول الأسئلة التي يوجهها كالأسهم النارية. وعلى الجانب الآخر كان دريدا قبل فترة وجيزة من موته، في حواره مع جون بيرنيوم يؤكد تمسكه بكل ما يشكل هويته الخاصة، وهي هوية تدور حول اللغة والجيل وتمتد إلى طريقته في الكتابة، وهو يصر مع كل عبارة على أنه لا فرار من التمسك بهذه الهويات الصغيرة وأن البديل الوحيد لذلك هو الموت النهائي بلا أمل في البعث. وبطبيعة الحال -وهو ما يشرحه دريدا- فقد ولد فرنسياً يعيش في الجزائر من عائلة يهودية محافظة، ولم يكن له ما يواجه به «فرنسا» حينما سافر إليها في شبابه المبكر غير اللغة الفرنسية، وهو باعتباره قادماً من إحدى المستعمرات الفرنسية، سوف يكون «مضطهداً ومعيارياً ومناصراً للتسوية مع الشعوب المحتلة، وداعياً للأخلاق». لم تكن هذه صفات حميدة في المجتمع الجديد. كانت اللغة الفرنسية هي الشيء الوحيد المشترك بينه وبين من ولدوا في باريس. كانت اللغة هي هويته الوحيدة المقبولة إلى جانب أخرى جزائرية منبوذة، كان يهودياً أيضاً ولم يكن يستطيع التخلص من هويته الدينية هذه رغم تمايزه من طريقة الاعتقاد التي تمت تربيته بواسطتها، ذلك على رغم توجيهه الانتقادات اللاذعة لإسرائيل وعداوته الصريحة مع أميركا. وأخيراً كانت هوية أخرى بانتظاره مع بدء كتابة أوائل مؤلفاته، كانت هي طريقته المميزة في الكتابة. كم من المرات تم فيها اتهام أسلوب جاك دريدا بالصعوبة والتعقيد؟ الكثير من المرات بالطبع على مدار مشواره الفكري، لكنه كان دائماً ما يملك حجته في مواجهة ذلك، مبرراته لاستخدام هذه الأسلوبية بعينها، «أقوم بتطعيم الشعري على الفلسفي، ولا مانع من استخدام الجناس أيضاً، والأساليب الأخرى التي لا يمكن البت في أمرها، تلك التطعيمات التي يقرأها معظم الناس ملتبسة، هي الأكثر دقة، وسيتبين القارئ الضرورة المنطقية لاستخدام هذا الأسلوب حينما يعرف ذلك». وفي الوقت الذي يعتبر فيه دريدا أسلوبيته الكتابية هوية وأسلوباً للعيش، ويخصص قدراً مهماً من مؤلفاته لتمجيد الكتابة وإعادة قدرها بعد أن تعرضت للانتقاص لمصلحة الصوت والشفاهية على أيدي اللسانيين، كان فوكو يعلن بالقدر نفسه كراهيته للكتابة، ويزيد على ذلك انتظاره المتقد لليوم الذي يستطيع فيه إيصال أفكاره للناس من دون الاضطرار للكتابة، فلدى «فوكو» النص هو الذي يكتب صاحبه لا العكس المعتاد تخيله، «جميعنا يعرف بأن المرء يجلس خالي الذهن أمام الأوراق ثم تبدأ عملية التولد في الظهور رويداً، رويداً». لكن فوكو لا يفضل هذه الميزة التي تمنحها الكتابة، وهو يفكر دائماً في الوصول إلى أسلوب واضح إلى أقصى درجة أمام القارئ، لكنه لا يصل إلى ذلك في شكل كامل أبداً، ثم يقول: «أحلم بنموذج آخر غير الكتاب الاعتيادي الذي نعرفه، كتاب تتشابك فيه الأوساط المختلفة». كان فوكو عرض التاريخ الذي أنجزه الطب النفسي قبله للمساءلة الخطيرة حول تطابق آلياته مع علم النفس والدراسات الطب-نفسية، بل أكثر من ذلك عن جدوى وجود مستشفى الأمراض النفسية، كان ذلك في «تاريخ الجنون» الذي دفع بأطباء نفسيين حول العالم إلى التفكير في جدوى مهنتهم، كما عرَّض المفاهيم الراسخة حول الجنس للشك مرة أخرى في تاريخ الجنسانية. هناك حكاية طريفة أيضاً حول «تاريخ الجنون»، فبينما رغب فوكو في توجيه ثمار هذا الكتاب وتأويلاته إلى السياسيين، إلا أن تلك الرغبة وُوجِهت طويلاً بالتجاهل، واستقبلت بحفاوة تلقائية من المهتمين بالأدب أمثال بارت وموريس بلانشو، على اعتبار أنه كتاب بقيمة أدبية رفيعة، وفي ذاكرة فوكو الكاره لفعل الكتابة، كان هذا الأمر جيداً ومثيراً للضحك في الوقت نفسه. كان فوكو يرى أن الفيلسوف أو المفكر لا يعمل بمعزل عن السياسة، ولا بد للحكام أن يستعينوا بهؤلاء من وقت الى آخر، أما عن دريدا فهو لم يكن يحب أن يتورط في السياسة، حيث «لا يوجد على وجه الأرض من هم أقل حرية من الساسة، إنهم عبيد في قبضة آليات ضخمة، يرتعدون خوفاً أمام أسيادهم غير المرئيين». لكن فوكو أيضاً كان يرى أن التاريخ الذي يدرس في الجامعة، ما هو إلا تاريخ القشور البرجوازي، للحكام فقط، قام الأكاديميون أثناء اعتماده بحذف الأحداث المباغتة والخارجة عن السياق المنتظم الذي رسمه هيغل مسبقاً، أسنان المنشار هذه التي كان يمسحها المؤرخون ليبقوا على التاريخ دائرياً منتظماً متكرراً كما أراده هيغل لم تكن تناسب فوكو، وعلى العكس من ذلك فإن هذه الأحداث التي تخرج عن السياق هي التي تثير اهتمامه في التاريخ، وتراكم هذه الأشياء الغريبة الصغيرة هو الذي يجعل الأمور المستحيلة قابلة للتحقق، ومن ثم يجعل منها ضرورة، وبالتالي يصنع التاريخ. أما التاريخ عند فيلسوف التفكيك في أيامه الأخيرة فقد كان يدور حول حراسة تراث جيله من الستينيين باعتباره الوحيد الباقي على قيد الحياة، هذا الجيل الذي يضم بالتبعية ميشيل فوكو، وكان دريدا يستشعر المسؤولية كاملة في الحفاظ على تراثهم حياً حتى وهو على حافة الموت. كما يضم الكتاب بعض المناقشات والمحاضرات حول السياسة ضد الميكافيلية لفوكو، والتفكيك وشرحه لدريدا، وموضوعات أخرى. هكذا يجمع المترجم محمد ميلاد تشكيلة من الكتابات التي تعد مدخلاً ممتازاً للنتاج الفكري لكليهما.