«كنا نقود على هَدْي أضواء السيارة الخافتة، الظلام كان حالكاً وبالكاد نميز الطريق الخاوية أمامنا، فالمنطقة التي كنا نعبرها في ريف جسر الشغور الغربي كانت مهجورة منذ أكثر من عام، ولطالما عبرناها ذهاباً وإياباً إلى قريتنا في جبل الأكراد، ذلك ما كنا واثقين به حتى اللحظة التي قفز فيها مسلحون أمام السيارة مصوبين أسلحتهم نحونا. أجبرونا على النزول، وطئنا الأرض فظننت أننا دخلنا بلاداً أخرى... كانوا لا يتقنون العربية وملامحهم غريبة جداً». تلك شهادة (أبو العبد) أحد سكان ريف اللاذقية. أخبرنا أيضاً بأنه احتجز ومن معه لبعض الوقت قبل أن يأتي أحد المتحدثين بالعربية ويوضح أنهم دخلوا أراضي إحدى القرى التي استوطنها مهاجرون تركستان مع عائلاتهم. وأنه لا ينبغى عليهم دخول هذ المنطقة مرة أخرى. لم يخبرنا (أبو العبد) عن اسم القرية، لكنها قد تكون قرية الغسانية أو القنية المسيحيتين أو ربما قرية الغنيمية العلوية، أو أياً من القرى السنّية الفارغة التي يؤكد (محمد) أن مجموعات من المهاجرين بدأت تستوطنها منذ عامين على الأقل. عن المنطقة وخصائصها الاجتماعية تعد المنطقة الشمالية الغربية من سورية والممتدة من جسر الشغور وريفها وصولاً إلى جبلي الأكراد والتركمان من أكثر المناطق تنوعاً عرقياً ودينياً، المنطقة المقسمة إدارياً بين محافظتي إدلب واللاذقية تضم مئات القرى المتقاربة لسكان سنّة وعلويين، مسيحيين ودروزاً، إضافة إلى بعض القرى الشيعية. كما تضم خليطاً عرقياً من العرب والأكراد والتركمان والأرمن في شكل أساسي. ومع نشوب الثورة في سورية ودخول العامل الطائفي في المعادلة السياسية والاجتماعية في شكل متزايد، بدأت التغيرات تطاول التركيبة السكانية للمنطقة لتتسارع وتيرتها مع تدفق المقاتلين الأجانب أواسط 2012. عشرات القرى والبلدات أخليت من سكانها سواء بسبب قصف النظام الذي واظب على تدمير المناطق التي تخرج عن سيطرته، أم بسبب الشحن الطائفي الذي دفع سكان القرى المسيحية والعلوية إلى الفرار. في النهاية شهد الشمال الغربي انزياحات سكانية شديدة التعقيد فتكت بالبنية الاجتماعية القائمة ومهدت الطريق لنشوء (مجتمعات المهاجرين). عن أول مهاجرَين دخلا يروي يامن سالم أحد مقاتلي «الجيش السوري الحر» عن أول شيشانيين دخلا ريف اللاذقية، واللذين عرفا نفسيهما ب عبدالله وأحمد: «بالنسبة إلينا كانا شخصين تركا حياتهما لمناصرتنا، ونحن كنا في حاجة ماسة للمقاتلين والخبرات». ووفق يامن أيضاً لم يمكث المقاتلان برفقة كتيبته سوى بضعة أسابيع: «مع بزوغ فجر اليوم التالي لوصول أحمد وعبدالله، تفاجأت بأحمد الذي كان يتقن العربية يوقظني من النوم لأداء صلاة الفجر معهم جماعةً، لم نكن معتادين على النهوض فجراً للصلاة، فوبخت أحمد، وقلت له أنني لن أصلي معه، كان جوابه: كيف ستنتصرون والفجر لا تصلون». تلك كانت بذور الخلاف التي دفعت غالبية المقاتلين الأجانب للعمل في شكل مستقل في نهاية المطاف، فمقاتلو الجيش الحر لم يكونوا متشددين دينياً على عكس الوافدين المشبعين بأيديولوجيا الجهاد. بعد أسابيع كان عشرات من المقاتلين الليبيين شكلوا «لواء المهاجرين» في بلدة «سلمى» بريف اللاذقية أواخر 2012، ليستقطب اللواء الجهادي شتات المهاجرين الذين كانوا يتوافدون في شكل متزايد عبر الأراضي التركية كأفراد أو مجموعات، وليترك أحمد وعبدالله كتيبة يامن ويلتحقا بأقرانهما. أبرز الفصائل المهاجرة بعد سنوات من تدفق اللاجئين إلى سورية، تشكلت خريطة عسكرية في الشمال الغربي تختلف في شكل ما عن نظيراتها في بقية مناطق سورية، وجود فصائل المهاجرين في شكل مستقل عن المقاتلين السوريين، وبأعداد كبيرة، هو أبرز نقاط الاختلاف ربما. وللخريطة العسكرية انعكاس اجتماعي برز مع ازدياد أعداد عائلات المقاتلين المهاجرين، والتي بلغت الآلاف وفق تقديرات سكان محليين، وبعد اتخاذها تجمعات سكانية خاصة بها. ويقول محمد المقاتل السابق في «الجيش الحر» أن «غالبية عائلات المهاجرين سكنت في القرى المهجرة وعددها بالعشرات في ريف اللاذقية، وهي تفضل القرى العلوية والمسيحية التي تطمئن إلى أن أحداً من أهلها لن يعود قريباً». ومن المعلومات التي جمعناها من مصادر متقاطعة وخلال متابعة صفحات التواصل الاجتماعي الخاصة بفصائل المهاجرين يمكن التأكد من وجود الفصائل الآتية: - «الحزب الإسلامي التركستاني لنصرة أهل الشام»: جميع مقاتليه من التركستان. واللافت دخولهم في شكل جماعي مع عائلاتهم وبأعداد كبيرة تقدر بحوالى 500 عائلة، تقيم اليوم في تجمعات سكانية خاصة بها منها قرية الغسانية المسيحية في ريف اللاذقية. - «جند الشام»: يتألف من الشيشان والقوقاز ولا تعرف نسبة الذين جلبوا عائلاتهم. - «حركة شام الإسلام»: معظم مقاتليها مغاربة، عدد منهم تزوج سوريات، لكن النسبة الأكبر جلبت عائلاتها معها. - «صقور العز»: معظمهم سعوديون، ترتفع نسب الزواج بسوريات بينهم. وقد انضم الصقور في ما بعد إلى «جبهة النصرة»، ما فتح أمامهم أفقاً أكبر للتفاعل مع المجتمع المحلي. أما «لواء المهاجرين» المذكور سابقاً فلم يتمكن من البقاء طويلاً كما يذكر محمد: «فقد قتل عدد كبير منهم في معارك ضد النظام، فيما عاد من تبقى إلى ليبيا». مجتمعات المهاجرين وعلاقتها بالسكان المحليين يمكن التمييز بين العرب وغير العرب كتقسيم أساسي في ما يخص علاقة المهاجرين بالسكان السوريين، فالعرب يملكون فرصاً أكبر للاتصال بحكم اللغة المشتركة. لكن يبقى الاحتكاك بين الطرفين في حدوده الدنيا كما يؤكد الإعلامي أبو سالم الحفاوي من ريف اللاذقية: «على رغم أن سلوكيات داعش أثرت سلباً في مستوى تقبل السوريين وجود المهاجرين إلا أن معظم سكان «المناطق المحررة» ما زالوا يحترمونهم، بخاصة أن معظم المهاجرين يوجدون على جبهات القتال فلا يتدخلون في حياة الناس، حتى عائلاتهم تسكن مناطق منعزلة عن تجمعاتنا السكانية». تمكنت سنا، وهي عاملة في المجال الطبي في ريف جسر الشغور، من الدخول إلى إحدى تلك القرى التي استقرت فيها عائلات شيشانية، ومن دون أن تكشف اسم القرية قالت: «كنا ننفذ إحدى حملات التلقيح، زملائي كانوا مترددين في دخول تلك القرية لكني أصررت على ذلك لأننا نقوم بعمل إنساني». وتابعت: «كانت المفاجأة كبيرة على وجه الرجل الذي فتح لي الباب لدى رؤيتي في المكان، شرحت له سبب وجودي فأغلق الباب لتأتي زوجته بعد لحظات وتخبرني بأنهم لن يلقحوا أطفالهم، طرقت ثلاثة أبواب أخرى لأتلقى الإجابة نفسها». لا شك في أن استحواذ المهاجرين على مساحات من الأرض السورية وعزلها يثيران الكثير من الاستياء في الحال الطبيعية، لكن للحرب قوانينها كما يقول يامن سالم الذي روى لنا قصة أبو مصعب المهاجر السعودي ذي الخمسة وعشرين عاماً: «كنا على خط النار الأول في معركة تحرير سهل الغاب في 22 نيسان (أبريل) الماضي، ومع بزوغ الفجر جاء أبو مصعب، جلس معنا بعض الوقت ثم وقف قائلاً: «ادعو لي، إن سيارتي مفخخة وأنا ذاهب لتنفيذ عملية استشهادية ضد الجيش». «كانت صدمتي لا توصف»، يتابع يامن: «هذا الإنسان الذي يشبهني، ستنتهي حياته بعد نصف ساعة من الآن، لن يلتقي أسرته وأحبته بعد الآن، سيفجر سيارته في عدوي ودفاعاً عني بينما أنا سأعود إلى أسرتي بعد انتهاء المعركة غالباً». لم تنجح عملية أبو مصعب يومذاك، استهدف جيش النظام سيارته بصاروخ قبل وصولها إلى الحاجز المستهدف في قرية السرمانية. قتل الرجل لكنه بقي شهيداً جليلاً بالنسبة إلى يامن ومعظم رفاقه، تلك هي السلطة الرمزية للمهاجرين على السوريين، والتي لها التأثير الأبرز في رسم ملامح العلاقة الحالية بين أبناء البلد والمهاجرين.