أرسل مؤتمر لندن الخاص بأفغانستان إشارة واضحة الى وجهة التعامل الدولي مع الأزمات الناجمة عن «الارهاب»، وهي الميل الى «استيعاب الارهاب» بدلاً من الطموح الى الانتصار عليه. والمؤتمر أيضاً شكل انعطافة جديدة على مستوى «فهم الارهاب» والتمييز بينه وبين معضلات أهلية تشهدها المجتمعات التي يتخللها. ولا شك في ان الفضل في هذه القناعة الدولية هو لنموذج «الصحوات» في العراق، وإن كانت أفغانستان تحتاج الى نموذج معدل لهذه الصيغة. وسبق مؤتمر لندن بيوم واحد لقاء عُقد فيها أيضاً لدعم اليمن ولم تخل قراراته أيضاً من رائحة «صحوات» في الجنوب من خلال دعم خطة إصلاحات اقتصادية تُفضي الى «اجتثاث الارهاب». اذاً، قرار زيادة القوات في أفغانستان الذي اتخذته الادارة الأميركية مطلع هذه السنة ليس كافياً. هذه قناعة لم تتولد في الأيام القليلة التي أعقبت القرار، والتي شهدت مزيداً من الاخفاقات، انما كانت في صلب النقاشات التي مهدت لصدور القرار في البيت الأبيض. فمراقب حركة النزاع اليومي في الولايات الافغانية سيرصد من دون شك طبيعة لهذا النزاع لا تنتمي الى منظومة الارهاب المستجد في العقد الفائت والمتمثلة بمعادلة الانتحاري الغريب والأهداف العشوائية. ثمة تحول في الصراع الدائر في ذلك البلد أفضى الى تلك القناعة الدولية، أي استيعاب طالبان. المؤشرات كلها تدل إلى ان «القاعدة» مقيمة في باكستان وليس في أفغانستان، وأن لطالبان الأفغانية حسابات في علاقتها مع «القاعدة»، ناهيك عن فروقات بدأت تُرصد بين مصالح البشتون في أفغانستان، ورغبات «إخوانهم» في القومية في باكستان. فالتعاطي السابق مع ظاهرة «الإرهاب» عبر دمج كل الظروف التي أنتجته في وجهة واحدة، تتمثل في «الشر» الذي يمثله، فشل على ما يبدو. إهمال الفروق، الطفيفة أحياناً والكبيرة في أحيان أخرى، لم يُجد نفعاً. التعامي عن حقيقة العلاقة العضوية بين البشتون وقيادات طالبان ضاعف المأزق. غض النظر عن فساد الادارة الأفغانية التي خلفت طالبان ساعد على نحو واضح في «فشل المهمة». والأهم من هذا كله، كان بداية ظاهرة بدأت تُقلق العالم أجمع وتفوق مخاطرها مخاطر الإرهاب، وهي المخدرات، اذ تحولت أفغانستان الى المصدر الرئيس للأفيون المتجه الى كل العالم، ولم تنجُ دول الترانزيت من مخاطره، فصارت ايران المستهلك الأول في العالم، فيما ضُرب طوق دولي حول طاجيكستان بسبب اعتمادها من جانب المهربين طريقاً الى أوروبا. في العراق كانت الصحوات الطريق للقضاء على الارهاب، وفي أفغانستان باشر المجتمع الدولي قبل أيام التقدم باتجاه مصالحة ما مع طالبان، وفي اليمن ألمح لقاء لندن الى علاقة العنف بأوضاع اقتصادية واجتماعية في الجنوب. اذاً الفشل الذي شهدته الأعوام المنصرمة متصل بإهمال هذه العوامل في عملية مكافحة الارهاب. وتم اختبار أولي لصحة هذا الافتراض في العراق. لكن الاختبار كشف أيضاً مسألة أخرى تتمثل في ان عوامل الظاهرة مركّبة من عناصر لا يمكن إهمال أحدها والمبالغة في التعويل على الثاني. التفجيرات التي تشهدها بغداد من حين الى آخر تتسرب من هذه الشقوق، فلم يعد في بلاد الرافدين من وجود لمناطق آمنة ل «القاعدة» وتراجعت أعداد المقاتلين الأجانب الى حدٍ كبير. لكن، في المقابل، ما زالت الطموحات الإقليمية ترخي بثقلها على الوضع الأمني في ذلك البلد. وتفجيرات بغداد الأخيرة وقعت في سياق تنصل أميركي واضح من تبعات ثقل العلاقة بين بغداد وبين جيرانها. استيعاب طالبان، أو جزء منها، لن يكون كافياً، تماماً مثلما لن يكون كافياً التعامل مع المأزق الداخلي في اليمن (الجنوب) والإبقاء على الخاصرة الإقليمية (الحوثيين) رخوة. العامل الباكستاني حاسم في استقرار أفغانستان، وهو عامل مركب وشديد التعقيد في علاقته مع الجارة الصغيرة، اذ تتفاوت المصالح الباكستانية بين المؤسسة العسكرية (الحاكمة) وبين قبائل البشتون على طرفي الحدود بين البلدين، وأيضاً بين حسابات الحكومة المنتخبة والضعيفة في اسلام آباد. ويبدو الشرط الباكستاني في استقرار أفغانستان مهملاً في مساعي المجتمع الدولي، لا سيما مؤتمر لندن. وهو اهمال يؤشر الى مخاوف كان نائب الرئيس الأميركي جو بايدن عبّر عنها من خلال إشارته الى الفارق الهائل بين توظيف الجهود الاقتصادية والعسكرية بين أفغانستانوباكستان لمصلحة الأولى طبعاً. ففي دول منهكة وضعيفة يصعب طلب «الاخلاص» من أنظمة حليفة، وهو الدرس الأساسي الذي من المفترض تعلمه من «فشل الحرب على الارهاب». فباكستان لن تتوانى عن طلب حصة لها في التسوية، واذا اعتبر المجتمع الدولي ان استيعاب طالبان سيكون هو الثمن فسيكرر بذلك سيناريو صعود الحركة في أوائل تسعينات القرن الفائت، عندما أمِن لها معتقداً ان «مربطها» في اسلام آباد، ليُصدم لاحقاً ببرجي التجارة العالميين ينهاران أمام ناظريه. الحلول المسطحة والواضحة ليست سبيلاً للتسوية مع أنظمة ومجتمعات تُكابد احتمالات انبعاث طالبان ونماذجها المختلفة، ومثلما استنتج الجميع ان الحرب ليست الوسيلة الناجعة وحدها، سيستنتج ان الاستيعاب أيضاً لا يكفي لدرء المخاطر. الانسحاب الكامل من هذه المجتمعات سيعيدها الى المرحلة الطالبانية، والحرب المتواصلة ستوقظ بن لادن المتأرجح بين صحوة وغفوة. وإهمال مصالح دول الجوار (باكستان) هو تماماً مثل اهمال مطامعها (ايران). المهمة ليست سهلة على الاطلاق، ومثلما لم تنفع معها سذاجة الحرب المطلقة، لن تنفع معها أيضاً سذاجة الاستيعاب المطلق. الطريق هي بين الاحتمالين، وتتخللها انعطافات مصالح دول الجوار. ثم ان النجاح في أفغانستان المشروط بنجاح في باكستان يُرشح دولاً أخرى لاحتضان المارقين، مثلما أحدث النجاح المحدود في غرب العراق عودة المقاتلين الى منطقة وزيرستان. اليوم ثمة من يرى ان الجولة المقبلة ستكون في اليمن، فعشرات المقاتلين العرب انتقلوا اليه، وبعضهم انتقل منه الى الصومال... المؤتمر المقبل سيكون عن الصومال حكماً.