غيّب الموت أخيراً، العلاّمة الدكتور علي أبو المكارم عميد كلية دار العلوم المصرية السابق (1936- 2015)، عالم النحو واللغة الضليع، وأحد أصحاب المدارس النحوية المعروفة من المحيط إلى الخليج، ويكفي أن نظرياته التأصيلية للنحو العربي راجت بين الدارسين، لأهميتها، وطزاجتها، كما تمت دراستها في أكثر من أطروحة جامعية في العراق، والأردن، والمغرب، وموريتانيا، ومالي وتشاد. فعلى غير الشائع في معظم الدراسات النحوية الأكاديمية الجافة، تبوأت بحوث علي أبو المكارم مكانة سامقة في حقل البحث النحوي واللغوي على حد سواء، لأنه نظر إلى اللغة العربية، والنحو نظرة فنان، مبدع، صاحب خيال خصب، وابتكار، وعقلية علمية منهجية، تحلل الظواهر، وتستنطقها، فمن ثم، أصبح رائد منهجية جديدة في تناول تاريخ النحو، والتقعيد للظواهر اللغوية والنحوية، باستقراء القديم وهضمه، ومعرفة إيجابياته، والبناء عليها، والسلبيات التي وقع فيها، وأهمية تلافيها، والاطِّلاع على أحدث النظريات المتعلقة بنشأة النحو العربي، والإفادة منها، من دون الانبهار المطلق، والوقوع في أسرها. ففي أطروحته التي نالها أخيراً من الجامعة الأردنية بمرتبة الشرف، بعنوان «جهود الدكتور علي أبو المكارم النحوية، دراسة وصفية تحليلية»، يؤكد الباحث الأردني سالم خليل الأقطش أن هذه الدراسة تهدف إلى الوقوف على جهود أبي المكارم النحوية، من خلال استقراء ما تضمنته كتبه من آراء ونظرات في النحو العربي. ومعلوم أن أبا المكارم يعد من المؤلفين المكثرين في التأليف النحوي، إذ إنه ألَّف ثمانية عشر كتاباً، تناولت النحو بالدراسة والتحليل، من مناحٍ مختلفة، وجوانب متعددة، وغلبت عليها المعالجة المنهجية لأساليب القدماء في وضع النحو وتقنينه، وحاول أبو المكارم من خلال هذه المؤلفات الضافية قراءة التاريخ النحوي وفق المنهج التحليلي، فلم يُسلِّم بكل ما قرره السلف، وتبعه فيه الخلف، بل سعى إلى محاكمة الروايات، والوصول إلى نتيجة فيها للدارسين مَقنَعٌ، وحاول- أيضاً - لم شتيت الظواهر اللغوية في كتاب ينظمها، ويكون للباحثين مرجعاً، فتناول ظاهرة التصرف الإعرابي، وظاهرة المطابقة، وظاهرة الترتيب بالتأصيل والتأسيس. كذلك عرض أبو المكارم أصول النحو في التراث، والتطور الدلالي الذي أصاب بعض المصطلحات النحوية، كالقياس، والاستقراء، والتقعيد، والتعليل، ومصادر اللغة، وبيَّن أثر التغيير في مدلول هذه المصطلحات عبرَ رحلتها الزمنية، كل ذلك في محاولة لإعادة قراءة التراث، بما يتناسب مع روح العصر. وتناول أبو المكارم الجملة العربية بالدراسة والتأصيل، والتحليل والمناقشة، فلم يقف عند حدود ما قرره النحاة من أنواع الجمل، بل تجاوز ذلك - وفقاً لمنهجه في فهم نظرية الإسناد - إلى زيادة الجملة الظرفية، والجملة الوصفية، والجملة الشرطية. واستجاب لداعي التيسير النحوي، فخرج علينا بمجموعة من المؤلفات التي تناولت قضية تيسير النحو، من زاويتين: نظرية حاول من خلالها بيان الأسس والمعايير المتبعة في تيسير النحو. والزاوية الأخرى: تطبيقية، حاول من خلالها أن يسقط هذه المعايير والأسس في كتاب يكون مرجعاً لمتعلمي النحو، والمبتدئين. يقول الباحث: وقد تواصل عطاء أبي المكارم في ميدان النحو العربي مدة تربو على نصف قرن، فحاول قراءة التراث النحوي بمنهجية جديدة، لا تعيد اجترار ما أقرَّه القدماء، بل تحاول جاهدة قراءته من منطلقات علمية ومنهجية حديثة، فيبتدئ من التحديد الدقيق لعلم النحو، وخصائصه، ومادته، ويكشف عن منهجية القدماء في تقنينه، وإعادة بعثه بحُلَّةٍ تتواءم والمستجدات الحياتية والفكرية الحالية، ومتطلباتها الآنية، وانتهاءً بوضع منهج علمي جديد، لهذه المادة التي شغلت الباحثين ردحاً من الزمن، فحاول جاهداً أن يعيد قراءة التاريخ النحوي منذ نشأته، ومروراً بمراحل نضجه وتطوره، ومدارسه، حتى استوى علماً قائماً بذاته، من هنا قدم أبو المكارم نتائج بالغة الأهمية في التاريخ النحوي جعلت منه رائد التأصيل العلمي للفكر النحوي العربي، ووضعته في مصاف علماء عصره، حتى أضحى- بفضل مؤلفاته النحوية، وقراءاته المنهجية - مدرسةً يقتفي الدارسون أثرها. وعلى رغم السمت التراثي الذي يلف تصانيف أبي المكارم، إلا أنه لم يكن تراثياً صرفاً، ولا معاصراً بحتاً، بل كان بين ذلك قواماً، فدعا إلى منهج توفيقي، يضم إلى جانب التراث كل ما هو معاصر، وحاول أن ينتحي طريقاً لا يدين فيها للقديم، ولا يعنو للجديد. وحول قضية أوليَّة النحو العربي يقول الأقطش إن أبا المكارم رفض نسبة تقسيمات النحو، وتعريفاته، وأبوابه إلى عصر الإمام علي بن أبي طالب، وأبي الأسود الدؤلي، مُبيناً أن هذا التقسيم قائم على الإسراف في ذكر الجزئيات والتفاصيل، التي ما كان لها لتصبح في مجال الدرس الموضوعي بغير أسلوب منهجي، لأن هذا يكون من صنع ومشاركة أجيال عديدة، وتفاعل ثقافات واسعة، وخبرات شتى، وهو الأمر نفسه الذي سبق إليه أحمد أمين في كتابه «ضحى الإسلام». وفي ما يتعلق بقضية نشأة النحو العربي يرى الباحث أن أبا المكارم انتهى إلى جملةٍ من النتائج التي يطمئن إليها البحث المنهجي، وهي: أن اللحن لم يكن وحده هو الدافع لوضع علم النحو، كما أن وضعه لم يكن عملاً فردياً، بل تضافرت مجموعة من العوامل الدينية والاجتماعية والفكرية، دعت إلى ضرورة وضعه. كما رأى أبو المكارم أن نشأة النحو العربي كانت نشأة عربية خالصة، وأن معالم التأثر بدأت تظهر زمن الخليل بن أحمد، بخاصة أيام سيبويه، وتقسيمه للكلمة. وذهب أبو المكارم إلى فساد نظرية المدارس النحوية، فأكد وحدة الأصول العامة في التفكير النحوي، على اختلاف تجمعاته، واصطلح بدلاً من (المدرسة) اسم (التجمعات النحوية). ونفى وجود مدارس بالمعنى الذي يقطع بوجود منهج متميز لكل مدرسة، ودفعه هذا اليقين العلمي إلى عدم التمييز بين الفروقات المنهجية للمدارس النحوية، في تناول الظاهرة اللغوية. وأثبت الباحث مدى تأثر الدكتور تمام حسان بآراء أبي المكارم، بخاصة عند حديثه عن ظاهرتي (التطابق، والترتيب) فقد تناولها الدكتور تمام تحت اسم (المطابقة، والرتبة) ليبعدعن نفسه شبح التأثر بأبي المكارم. كما لاحظ الباحث أن أبا المكارم رأى أن منهج التعليل النحوي أصابه شيء من التغيير والتطور في القرن الرابع الهجري، فلم يعد التعليل يقف عند حدود تبرير الأحكام النحوية فقط، بل حدث انقلاب في العلاقة بين التقعيد والتعليل، فأصبح تلمس العلل هدفاً رئيساً في البحث النحوي، وأنه بمقتضاه يمكن أن تُعدل القواعد لتتسق مع التعليلات، وهو ما اصطلح عليه باسم (العلة الجدلية). كما فرَّق أبو المكارم بين القياس الاستقرائي، والقياس الشكلي، وأن القياس الأول هو الشائع في البحث النحوي، خلافاً لمحاولات النحاة عندما احتجوا بالقراءات الشاذة، وبالحديث النبوي أخذاً بالقياس الشكلي، عساه أن يرفدهم ببعض ما يحتاجونه في قواعدهم. ولأبي المكارم دراسات قيمة، منها: أصول التفكير النحوي، وتاريخ النحو العربي، وتقويم الفكر النحوي، والظواهر اللغوية في التراث النحوي، ومقومات الجملة العربية، وتعليم النحو العربي، والحذف والتقدير في النحو العربي، والتعليم والعربية. وله أيضا ثلاث روايات، هي: الموت عشقاً، والعاشق ينتظر، وعصفور الكناريا.