تعكس كتب الرحالة في الحواضر الشامية نماذج حية من الصور الاجتماعية والاقتصادية المختلفة التي عاشها سكان بلاد الشام، وتتناول هذه النماذج بالدراسة المقتضبة أحياناً والمفصلة أحياناً أخرى مظاهر دقيقة للأوضاع الاجتماعية والاقتصادية التي دونها الرّحالة، وعايشوها من خلال اختلاطهم بالطبقات الاجتماعية الغنية والفقيرة في مختلف المدن التي مروا بها أو أقاموا فيها. كما تتضمن إشارات كثيرة تصف أجور البريد وانتظام العمل فيه، وأجور الإقامة في الفنادق والنقل بالعربات الخاصة ونفقات المدارس وأسعار الطعام، كما تقدم نماذج عن بعض المصنوعات المحلية وطرق تصديرها إلى الأسواق الأوروبية. وتتناول بشيء من التفصيل سلم إنتاجها السنوي كإنتاج الحرير والإسفنج البحري ولائحة بأسعار بعض الحاجيات المختلفة، كالخبز ولحم البقر، ولحم الغنم، والسمك، والدجاج والتبغ والصابون والسكر والبن والأرز والخمر.. أثناء إقامة القاياتي في الديار الشامية أتيح له معاينة وتدوين عادات سكان بلاد الشام، فأشار إلى بعض ملامح التغيير الاقتصادي التي شهدتها حواضر الشام، ولاسيما بيروت، فمنذ أن حطّ آتيا من مصر، أمكن له أن يرى مظاهر الغنى والثروة التي وفرتها حديثاً المبادلات التجارية مع أوروبا. وذلك من خلال تعرفه على عدد كبير من العلماء والوجهاء، والتجار. فعائلة آل القباني « وهي عائلة مشهورة من مشاهير عيال تلك المدينة المعمورة»... وفرت له منزلا للسكن والإقامة، فبمجرد أن سمع الشيخ أحمد أفندي القباني بقدومه بادر على الفور الى مقابلته « وأسرع في زيارتنا في الخان المذكور، ودعانا للنزول في منزله المعمور، فأجبناه بلبيك لا تثريب عليك قد أخذنا من أحد أقاربكم منزلا لكم وبحذائكم» ومنهم السيد عبد القادر قباني مدير جريدة «ثمرات الفنون» البيروتية وأخوه سعد الدين قباني أحد الرجال المستعدين المعدودين وله خدمات للدولة والوطن مهمة وتوظف في جملة مأموريات جمة». كما كان من جملة من تعرف عليهم من وجوه هذه المدينة وأمرائها وعلمائها وأدبائها وتجارها وأهل اعتبارها بيت «السادات بيهم فإن لهم تجارات عظيمة، وثروة جسيمة، وقصوراً مشيّدة، وبيوتاً عديدة، وأملاكاً وعقارات وحوانيت وخانات ومنهم الحاج محي الدين بيهم الذي تولى قديماً رئاسة بلدية بيروت، وهو الآن مشتغل بأمر تجارته رافل في حلل يساره وثروته». ومن العائلات البيروتية، «عائلة رمضان ذات المجد والشأن موجود منهم إلى الآن حضرة السيد عبد الغني أفندي رمضان، وهو كبير هذه العائلة المشهورة وله من الأولاد النبهاء نحو العشرة. وغالبهم مستخدم في الإدارات الملكية، وهو أيضا عضو من أعضاء الجزاء مجلس البلدية، وعمر بن أمين آغا رمضان الذي كان والده في قديم الزمان، موظفاً بوظائف علية حتى في أيام دخول الحكومة المصرية في البلاد السورية وهو الآن عضو من أعضاء مجلس الإدارة بدلا من المرحوم عمر أفندي الغزاوي بعد أن توفي وكان هو أيضاً من كبار أهل البلد غنى وثروة وله شركة كبيرة مع جناب سعدالله بك حلابو، وهو شامي الأصل بلغ من الشهرة في التجارة مبلغاً وافراً حتى صار له مع شريكه المذكور وابوران يستخدمهما في تجارتهما في البحر الأبيض والأحمر». ومنهم السيد «محمد بن إياس الدمشقي الأصل، نال من الثراء والغنى ما لا يدخل تحت نطاق. والحاج حسن أفندي الغندور له في التجارة حظ موفور، وعائلة البربير، وكل هذه العائلة من أهل المعارف الوفيرة والمزايا الكاملة الكثيرة، فمنهم التجار الكبار والعلماء الأخيار كالسيد بشير بالذكر البربير الذي هو مدير لبوستة الاتحاد العثماني». ومن أعيان أهل التجارة «الحاج إبراهيم أفندي طبارة، من بيت مشهور بهذا اللقب، وهو رجل كريم النسب، كامل العقل والأدب، يحب أهل الفضل والدين، وله مواساة لبعض الفقراء والمعوزين. ومنهم السيد مصطفى نجا من أهل التجارة والعلم والذكاء والفهم، وأبو خضر العيتاني أحد المشاهير بالثروة قديماً، ومنهم بيت العريس وبيت قريطم، وبيت خزمة». ولم يخص القاياتي العائلات الإسلامية بالذكر وحدها، بل إنه أشار إلى بعض العائلات المسيحية الغنية « أما العائلات النصرانية فهم كثير، وأمرهم في الغنى والثروة شهير، ومنهم السراسقة والتويني وبسترس. وغيرهم ممن ظهر حديثاً في مظهر الغنى المفرط بواسطة التجارة والمعاملات الأوروبية» وهذه العبارة الأخيرة للقاياتي تدل بوضوح على مدى الثراء الذي حقّقته هذه العائلات المسيحية وغيرها آنذاك بواسطة التجارة مع الغرب. ولا يخفي مؤلفنا إعجابه بمدينة بيروت، فهي من أعظم المدن الشامية والمراسي الساحلية، عالية المباني كاملة المعاني، عماراتها من داخل السور غالبها من قديم الدهور، وأما البناء الجديد في خارجه فهو على طراز جديد واتقان وتشييد موضوع على أعلاه القرميد وفي أطواقه الشبابيك من الحديد، أما بناء المدينة فكله من الحجر الصلب الجاف والكلس المسمى بالجير، ويخلطونه بالرمل الأحمر بعد تصفيته بمصفاة من خشب معدة لذلك، وتخمره أياماً طوالا حتى يصير كالعجين في التلبك واللين». ولشدة حرص أهالي بيروت على الاعتناء بمبانيهم، فإنهم يحضرون لها الأعمدة والبلاط من الرخام ويضعونه في أرضها وحيطانها بغاية الإحكام، ويتغالون في النقش والفرش من ذهب وحرير، ويتعالون في ما يجلسون عليه من كرسي أو سرير». وتعجبه براعة أهالي بيروت، وحتى الفقراء منهم، في الاستفادة من أنواع التجارة، فالفقير منهم يبني مسكناً ويعده لاكتراء الغرباء الذين يقيمون فيه مدة أيام الشتاء، فيسكن هو الطابق السفلي ويؤجر الطابق العلوي، فتكون تلك الحارة كأنها نوع من أنواع التجارة، ويقارن القاياتي بينهم وبين أهل مصر فأهل بيروت احتالوا على تحصيل العيش لا كأهل مصر الذين استولى عليهم البطر والطيش، وتركوا التدبير واتبعوا التبذير». ... «ولاشتغال أهل هذه المدينة بأشغالهم التجارية من الصباح إلى المساء ما بين كونه في دكان أو حاصل يبيع ويشتري، أو في الميناء يستخرج بضاعته المجلوبة إليه من أوروبا أو بلاد أخرى، فليس له وقت فراغ، فلا تراهم يكثرون من السهرات الليلية، ولا يشتغلون بكثرة مجالسة الأصدقاء والأقرباء ولا مؤانسة المسافرين والغرباء إلا على قدر الضرورة، كعزيمة أو وليمة لعزيز أو قادم كريم، منهم بخلاف أهل دمشق، فإن كبارهم أصحاب عقارات وأملاك ومع ذلك تراهم متفرغين لملاقاة الغرباء ومؤانسة الأصدقاء بصدور رحبة وألسن بالتحيات رطبة». وهذه المقارنة بين أهل دمشق وأهل بيروت تفسح المجال للاطلاع على انشغال أهل بيروت بشؤون التجارة والترانزيت بفضل ميناء المدينة الذي بدأ ينمو آنذاك باستمرار فأصبحت البواخر والسفن تدخله كل يوم مما لم يدع لأهل بيروت متسعاً من الوقت يصرفونه خارج نطاق أعمالهم المتزايدة». بعكس أهل دمشق الذين لا تضغط أعمالهم عليهم فيتيسر لهم الترحيب بضيوفهم والتفرغ لملاقاتهم. ويرى القاياتي أن هذا الرخاء الذي ناله كثير من تجار بيروت، قد انعكس على عمران المدينة فظهرت عمائرها الجديدة المبنية على الأسلوب الحديث بجانب مبانيها القديمة الواقعة داخل السور، إلا أن هذه النقلة النوعية في تحديث البناء لم يغير من طبيعة المدينةفبيروت كما يراها مؤلفنا مدينة إسلامية ديناً وغيرة وحميّة أوروبية نظاماً وبناء وحرية ، فإنهم مع كثرة مخالطتهم لغير أهل دينهم من وطنيين وأجانب في غاية الصلابة والتحفظ على شعائر الدين. ولم يقلدوهم في طول مدة العشرة إلا في مراعاة القوانين والنظم في المرافعات والمدافعات، والمباني المشيدة البهجة، والطرقات والأسواق المنفرجة، وفيها غاية السهولة في تناول البضاعات التجارية والتحارير والرسائل بواسطة البوستات والوبورات الأجنبية. فالسفار فيها والإخبار يومية لا كغيرها من البلاد السورية. فهذه مزية لها وأي مزية.. لقد شدّت الرحالة عوائد أهل بيروت، فعمل على نقل صورة دقيقة عن أحوال أهلها ومؤسساتهم وعوائدهم وأعيادهم، ففي أعيادهم درجت العادة أن يصلّوا ثم يرجعوا ويزور بعضهم بعضاً في بيوتهم، ويقدّموا للزائر شيئا من الحلوى، كما كانوا يصلّون جميعاً في مسجد سيدنا يحيى وهو مسجد البلد الكبير الجامع، ويُعيِد بعضهم على بعض فيه قبل خروجهم إلى بيوتهم ولا يذهبون للتعييد خارجه. وأما عاداتهم في الأفراح فهي نشر أوراق الدعوة لبعض الأمراء والوجوه والأقارب لحضور كتب الكتاب (العقد) وسماع قراءة المولد الشريف النبوي نهاراً. وقراءة عشر من القرآن. إلا أن القاياتي يأخذ على أهل بيروت عدم معرفتهم الألحان الجديدة في الموشحات والأدوار، فقراءتهم هي على الطريقة القديمة التي كانت بمصر منذ زمان قديم، وكذلك قراءتهم القرآن ليست كما ينبغي في التجويد والجودة، فأهل بيروت، بل وأهل الشام عموماً، أحوج ما يكونون عليه حاجتهم إلى القراء المجودين، والمنشدين المطربين. ويبدو أن أهل بيروت يتجنّبون الباهظ من النفقات في مثل هذه المناسبات مما أعجب القاياتي « ولقد أعجبني هذا الصنيع في قلة الكلفة والغرامة الموجبة للحسرة والندامة لا كما يفعل إخواننا المصريون من الإسراف والتلف والتبذير، وقلة العقل والتدبير». فالمصري الذي يزوج ابنته يفتقر فقراً لا غنى بعده، بعكس ابن بيروت الذي يعتمد الاقتصاد والدربة. وأما عاداتهم في المآتم فهي خفيفة الكلفة أيضاً، يموت الميت فيجهزونه ويحضره من كان يريد أن يشيعه إما في البيت أو في المسجد الجامع. وموعدهم الصلاة إما الظهر وإما العصر، فإذا قضيت الصلاة المكتوبة، وصلاة الجنازة خرجوا به من المسجد وأمامه الفقهاء والقراء، فالبعض يقرأ القرآن والآخر يقرأ البردة. وأهل الطرق يقرؤون في أورادهم وأحزابهم. ولا يفعلون في حياتهم من التكاليف الزائدة، و كل من يجيئهم للتعزية لا يتناول إلا القهوة والنرجيلة، ولا ذبح ولا سلخ». ويصف حال بيروت بقوله «وعلى كل حال فإنهم ليس لهم كبير اهتمام بشيء من الأفراح أو الأحزان أو العزائم أو الولائم، ولا يخافون لومة لائم.. فهم رجال لا تلهيهم عن معاشهم أفراح ولا أتراح»، ويبدي رغبته في أن يتشبه بهم أهل مصر «ويا ليت أهل مصر يتشبهون بهم والتشبه بالرجال فلاح». ويتحدث عن لبوسهم، فهم فيه على أقسام: قسم، وهو الكثير الغالب الآن، يلبس الطربوش الإفرنجي، والسترة والبنطلون، ويحلق لحيته ويبقي شعر رأسه، وقسم يلبس القنباز (القفطان) في اصطلاح أهل مصر وفوقه الجبة أو المضربية أو السترة الطويلة، ويلبس كل من القسمين في رجله اللستيك (الجزمة). وأما المركوب أو الصرمة فقليل من يلبسهما من الناس إلا الفقراء جداً. وقسم يلبس البذلة العثمانية القديمة وهو الدمير والشروال الكبير الواسع وعلى رأسه الطربوش الاسكندراني بالزر الكبير». وأما النساء فأقسام أيضاً: «قسم يلبس الإزار الأبيض الناصع أو الملاءة الحرير الحمراء أو المناويش أو الخضراء أو الصفراء أو الزرقاء، وعلى وجوههن المناديل الرقيقة الإسلامبولي، وفي أرجلهن اللستيكات ( الجزم )الإفرنجي، وحتى نساء المسلمين خاصة. وقسم يلبس الفساتين الواسعة من الشيت والصوف الإفرنجي والحرير الملون، وعلى رؤوسهن الطرح الرقيقة أو المناديل فقط، وهن مكشوفات الوجوه ( وربما الزنود ) ولا يرين بأساً في المرور بالأسواق والشوارع والحارات ومحادثة الرجال الأجانب في الطرقات والبيوت، وهن كثيرات من نساء النصارى اللاتي يقلدن الأوروبيات حق التقليد. وقسم كنساء أوروبا تماماً في إرخاء الذيول ولبس الأعراق والبرانيط على رؤوسهن، ولا يفترقن منهن إلا باللسان واللغة، فمتى رأيتهن لا تشك في أنّهن من نساء الإفرنج، وهذا ليس غالب نساء النصارى، المقلدات لهن في كل أحوالهن وأطوارهن». ويبدي القاياتي استنكاره لخروج النساء متبرجات، يقلّدن نساء الإفرنج في الشوارع والاختلاط بالرجال تحت ستار الحرية والتمدن فيقول « وبهذا الذي يظنونه تمدناً اشتبه الحال وزاد الاختلال، فلا يدري حال المرأة وهي مارة بالطريق مع رفيق، أهي مع حليلها أم خليلها». ويأخذ على هذه الفئة المتفرنجة التي لا يكتفي أفرادها بترك نسائهم على هذا النحو، وإنما ينكرون على المسلمين منع نسائهم من كشف الوجوه والادعاء ب « أنه حصر لطبيعتهن، وهن من الجنس اللطيف والعبرة بحفظ الباطن وما دروا أن الظاهر عنوان الباطن، والنظر بريد الزنا والطريق إليه، يجعلون محاسن الدين عيوباً وحسناته ذنوباً. ويشبه نساؤهم وحالهم في الأسواق كقطيع الظباء أو كنعاج الفلاة تعسفن رملا. ويقولون هذا التمدن والظرافة والحرية، وهي خصلة باسم عدم الغيرة والناموس حرية. ولا أظن أن في المدن الإسلامية من يضاهي نصارى بيروت في تقليد الإفرنج. * كاتب لبناني