ربما يتراجع المتعصبون للأصالة الفنية وتقليدية الأدوات، الذين لا يعيرون اهتماماً للفن الرقمي، والممتنعون عن تصنيفه ضمن الفنون الإنسانية الراقية عن موقفهم، وقد يحيدون عن رأيهم باعتباره فناً دخيلاً، طرأ على الواقع الفني مع ثورة الحاسب الآلي وشبكة المعلومات العنكبوتية، لدرجة أنهم أطلقوا عليه فن الإنترنت، هذا ما يتبادر لذهن الزائر للمعرض الذي نظمته جمعية الثقافة والفنون في جدة لمجموعة الفن الرقمي المنبثقة عن الجمعية بعنوان «إشكاليات إنسانية... المعرض التشكيلي الرقمي»، وافتتحه رئيس نادي جدة الأدبي الدكتور عبدالمحسن بن فراج القحطاني في الصالة الرئيسية لمركز تسامي في الصيرفي ميغا مول أخيراً، وشاركت فيه خمس فنانات هن مشرفات تربويات في وزارة التربية والتعليم (منال الرويشد، هناء الشبلي، هدى الرويس، عائشة الحارثي، فوزية المطيري). ويظهر موضوع المعرض من خلال المزج بين الحالات الإنسانية الواقعية والمفترضة إلكترونياً درامياً، وحالات الإبداع الإنساني المتجدد عبر استخدام الكومبيوتر كأداة أساسية، لاسيما أن اللغة البصرية لغة متطورة لا تقف عند تقليدية الأدوات، من فرشاة وألوان الأكريلك والباستيل وغيرها، إنما هي لغة منفتحة على مستجدات ما يصنعه الإنسان وما يفكر فيه وما يريد التعبير عنه، بل لها القدرة على التوازي مع التغيرات في الحياة والتنقل والتشابك والتطور. وهكذا جاءت لوحات منال الرويشد في تلوينات متداخلة لشخوص مموهة، توحي بصراع المجتمع، وتطلع الأسرة نحو مستقبل أبنائها، لتروي أعمالها فصولاً من حياة ومكابدات الإنسان المعاصر، وذلك من خلال الدرجات القاتمة من الألوان الإلكترونية، فيما تضع هناء الشبلي وجه المرأة وكيانها داخل فقاعات أو بلورات تارة، أو معصوبة العينين أو داخل تكوينات فانتازية تارة أخرى ترمز إلى معاناتها الداخلية، وتبرز الرموز المشيرة إلى ذكورية فارضة سطوتها، ثم تقترب هدى الرويس من العوالم الأسطورية العربية البدوية، وتتشكل رموزها في لونية الصحراء والجبال البنية اللون، ويتجلى الحصان العربي في جميع لوحاتها بلجامه المزركش بزخرفات مستقاة من فن البادية، وتميزت عائشة الحارثي بأعمال تقترب من فن الجرافيكس بتميز خاص يستنطق تعبيرية العين البشرية كتيمة رئيسية لجميع لوحاتها، متخذة من ألوان الأسود والأبيض والأحمر ثلاثية أساسية (لوحة تكاثر)، تتداخل معها أحياناً ألوان الأصفر (لوحتيّ ثقافة، تكاتف)، غير أن مهارة فوزية المطيري تبرز في انتقائها اللوني الأنثوي في لوحات تعبيرية تجريدية، خصوصاً في لوحاتيها «شرارة» و«فضول»، بحيث تعطي إحساس الأسطورية للمتلقي، وتدفعه للاقتراب من لوحتها لتفسيرها بمرجعية ثقافته. وأشار الدكتور عبدالمحسن القحطاني الى جمالية الأعمال بأنها رائعة ومتنوعة «وقد خرج هذا الفن من ملايين الممارسات التجريبية للآلاف من مستخدمي الحاسوب، الذين يعتمدون برنامج الفوتوشوب، فتطورت إمكانات استخدام هذا البرنامج، وراح العقل البشري يبتكر آلاف الاحتمالات والصور والخيالات الفنتازية والسريالية التي تنتجها الصدفة والتقنية المطلقة». من جهته، أوضح مدير فرع جمعية الثقافة والفنون في جدة عبدالله باحطاب، أن هذا العرض هو الثالث للوحات الخمسين المشاركة في معرض «إشكاليات إنسان»، إذ سبق للفنانات إقامة المعرض مرتين في الرياض خلال العام الماضي، ولقي حضوراً لافتاً من الجماهير.