«النجاح» كمصطلح يعبر به عن شخص أو فكرة أو منتج أو عمل، وهو من أكثر الكلمات تداولاً بين الناس، فالنجاح أثير الكل، ومعشوق الجميع، إذ على الأقل لا أحد يرغب في الفشل أو السير إليه، ولا أن ينسب إليه أو ينعت به. والعجيب أن كل هذه الثقافة المتكومة في مجتمعنا الحديث حول النجاح من مؤلفات ودورات وبرامج، للأفراد والجماعات والدول، لم تنتشلنا من الفشل، فضلاً عن أن توصلنا إلى النجاح أو تمثل بوصلة تشير إليه. إن ثلاثيةً تحجبنا عن حقيقة النجاح وتعقده في طريقنا لابد من إدراكها والإفصاح عنها ومعالجتها، لأنه كما نكرر «لا جدوى من توافر الأسباب من دون إنتفاء الموانع». أولها: ضعف الإرادة في النجاح، أو على الأصح الخوف منه لأنه تغيير وللتغيير ضرائبه ومدفوعاته، وللتخلص من الضرائب والتهرب منه نعمد ونلجأ إلى تكييف نجاح صوري أو موقت سريع التحضير، أو نعمد إلى إيهام الذات بالنجاح (ويحسبون أنهم يحسنون صنعا) ولكن الكوارث والظروف القاسية هي وحدها تكشف الزيف وتجلي حالات الفشل. ثانيها: التعلل بالحالة الاجتماعية غير المهيئة للنجاح، وكأن النجاح مركب خاص بطريقة لا يسمح بتناوله إلا للكبار بملاعق من ذهب! ويحفظ في مكان بارد! بيد أن المجتمعات هي رهان النجاح وميدان تطبيقه وسر نمائه. ثالثها: المفهوم الغلط للنجاح كمصطلح ومنهج، حين لا يكون إلا بموجب شهادة المدربين وبرامج المؤسسات! أو الغلط في المفهوم باعتبار أن النجاح كلٌ لا يتجزأ، وصواب لا غلط فيه، وحق لا باطل فيه، أو باعتباره أهدافاً يتم تحقيقها كمهنة يتم إنجازها والتخلص منها، إلا أن النجاح مختلف جداً، فهو أبسط من تعقيدات المتكلفين، وأرقى من فذلكات المتمصلحين، إنه رحلة المخلوق البشري لا تنفكُ عن طبيعته التي تدعمه حين يتعرف عليها ويشكلُ علاقتهُ معها، ومن ثم يشكلُ علاقتهُ وتحالفه مع رباعية «الزمان، والمكان، والأحوال، والأشخاص»، وعلى هذا الترتيب الحكمي والذكري تتكون البصيرة، ويحصل الإدراك لنقاط القوة والضعف وتتجلى الفرص. كل ذلك ليس إلا تهيئة من المخلوق البشري كفتح أدنى يتجلى له الفتح الأعلى وتتنزل الأقدار الإلهية الجميلة والهبات الربانية اللطيفة، فمن الأدنى القرب ومن الأعلى الحب (يتقرب إلي حتى أحبه) ويتركز العمل حينها على مواظبة السلوك وفعل الصحيح بطريقة صحيحة، تعرج الذات للذات، ذات الأدنى إلى ذات الأعلى (تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك). ونجاح لا تتكامل فيه الشهادة مع الغيب، والحق مع الحقيقة، سيكون نجاحاً خفيفاً وموقوتاً وسريعاً لا تتوافر له الطاقة الكافية، إذ يستمد طاقته من ذاته، أي يأكل بعضه بعضاً. إن اللا شعور يمثل ركيزة النجاح وأسراره الخفية، وهو الانطلاقة الأولى والملازمة لحال النجاح، فهو الكاشف عن حقيقة الذات وقوة الاتصال مع مصدر الطاقة التي ينعم بها الله على عباده الصادقين معه وله، ولأن الله خلق الناس كلهم و(خلق لكم ما في الأرض جميعاً) فثمة اتصال غريب رهيب بين البشرية، ومن تعرف على تقنية النفوس في اتصالاتها استراح وأراح في الفهم والتفاعل والتجاوز... وربط الأسباب بالمسببات والمقدمات بالنتائج والأجزاء بالكليات، ليس في ما يظهر فحسب، بل في ما يغيب في عالم الأرواح «الأرواح جنود مجندة». من هنا يبدو ان النجاح كما هو في الكتب والدورات والبرامج، أو في بعضها مختلف عما افهمه، وهكذا أنا أفهم. لا معنى في السير على طريق إلا طريق الرجوع، نعم الرجوع إلى الأمام! فلسفة عجيبة ولكنها واضحة المعالم، صادقة المنهج، فاعلة الأداء، قوية التأثير، إنه طريق الرجوع الحقيقي (إنا لله وإنا إليه راجعون) طريق الرجوع هذا تتساقط فيه الأعمار وتضعف فيه الحال، في طريق الرجوع هذا ذكريات وحسرات وفراق وتحولات. تحولٌ نحو الأهم والأدهى والأعظم، وتوجهٌ نحو المستقر والمنتهى... ذهاب إلى المصير. معانٍ مقدسة كريمة لا تعزل المرء عن دنياه بقدر ما تدعمه فيها للقول السديد والعمل الصالح والاستقرار النفسي والهدوء القلبي، في سيرٍ حثيث إلى أجل مسمى يجعل الارتباط في الحياة أكثر تركيزاً وأعمق تفكيراً وأكثر حيوية وفاعلية، فما حياتنا إلا معانٍ ندركها وآثار نتركها. هذا التكوين في نظري هو النجاح، وهو سر التمكين، وعليه نؤسس ونوسع ونزيد وننتظر المزيد. [email protected]