حليمة . . خادمة اندونيسية في الاربعينيات من عمرها، تروي حكايتها وعشرات النسوة مثلها معها ومن حولها من متخلفات العمرة والهاربات من الكفلاء . . وجدتها تتوسد قطعة من الرصيف الاسمنتي، تحت جسر " الستين " بجدة منذ ثلاثين يوما كما تزعم، مأساتها ان " ضيق ذات اليد " قد حل بها، وحولها الى رقم هامشي فوق شارع الحياة، عيناها الشاردتان تقول انها لم تتعامل باسلوب صحيح مع الظلم الذي وقع بها، على طريقة مكره اخاك لا بطل . . هي تقول ان كفيلها اساء معاملتها بمنعه صرف راتبها الشهري، الذي كانت تتطلع الى ارساله الى اولادها الذين ينتظرونه هناك وزوجة كفيلها كانت فظة معها، وتكلفها ما لا تطيق، الى ان قررت هذه " الغريبة " ان تهرب تحت جنح الظلام الى حيث يتجمع ابناء جلدتها تحت جسر الستين، لتشكل معهم رقماً جديداً ربما صار يتزايد يوماً بعد يوم !! روائح منتنة لفت انتباهي للوهلة الاولى ان حليمة، وهي تتحدث معي، ان لغتها العربية جيدة، سألتها كيف اجادتها . . فقالت : ان ثلاث سنوات في جدة تكفي لاتقان العربية، ومضت تنعطف بحديثها الى جوهر مأساتها، عندما راحت فجأة تسد انفها من الروائح القاتلة التي يعج بها المكان، وشاطرتها ذات الفعل، فرائحة المخلفات البشرية من البول تكاد تدفعك لان تفرغ ما في بطنك . . يا الهي " قلتها فجأة " فردت حليمة : هنا لا يوجد دورات مياه، وننتظر حلول مواعيد الصلوات لنفرّ بمثاناتنا المليئة الى دورات المساجد القريبة، التي لا تفتح الا في مواعيد قصيرة، ثم يتم اغلاقها، وغير ذلك علينا ان " ندّبر " انفسنا اذا غالبنا الحال !! قصة الطعام وتقول حليمة . . لنا قصة مع الطعام الغائب، فهو رهن بحسنة من يؤلمه حالنا، ليتصدق علينا، وعيوننا مسافرة الى الافق البعيد تحت الجسر، لعل قادم من اهل الخير يتوقف بسيارته، فيدفع لنا بشيء من الارز او الخبز . . واذا ما حدث فقد اطفأنا بذلك جوع ساعات طويلة . . وليس تحت يدي سوى حقيبتي الصغيرة الخالية من المال، ولا يملأ جوفها سوى حاجيات نسائية بسيطة " مشط، مرآة، مقلم اظافر، نوتة صغيرة وقلم " . عالم النهار وتمضي لتقول ان النهار هنا والليل سواء، لا شيء يمكن ان يسجل فارقاً جوهرياً بينهما، نهار يبدأ بانبلاج الفجر، وبداية صخب المدينة، واهتزاز الجسر بما فوقه من سيارات متحركة الى نهار جديد، لكننا هنا نعيش لحظات استثنائية غريبة وموحشة، حيث لا جديد في حياتنا، ويرتفع قرص الشمس في عنان السماء الى ان يصل الى المغيب، والركود والملل والحيرة والقلق هي كل حياتنا، ننتظر من يأتي ليبدل سكون وجمود حياتنا، لكن سحابة النهار تمضي، ويتضاءل معها املنا، لنبدأ بناء امل آخر في يوم جديد . حياة الليل وتردف قائلة : اما الليل فإنه عذاب آخر، حيث لا جديد، فالوجوه من حولي هي الوجوه، عشرات النساء تتوسد بعضهن ارجل الاخرى عندما يداهمهن النوم، واذا ما استشاطت الواحدة غضباً من الاخرى لسبب تافه، قامت معركة صغيرة من الملاسنات الحادة، واحدى الملاسنات جعلت سيارة شرطة تتدخل وتفض النزاع باسلوب ودي، وما يشبه الطبطبة، وتعود الامور بعد ذلك الى حالها، دون ان تحسم جذرياً، وكأنها جمر تحت الرماد، وسط كتل بشرية متداخلة، ومتزاحمة تفوح منها الروائح البشرية المنتنة، بفعل انعدام النظافة، التي غابت اسبابها المادية، حيث لا ماء يكفي لان يمارس احدنا حقه في نظافة جيدة لجسده الذي طال اتساخه اياماً واياماً . الاستنجاد بالقنصلية وتتذكر بسرعة ما فعلته قبل يومين عندما هرولت مع احد الرجال من بني جلدتها الى القنصلية الاندونيسية متطلعة الى " مخرج " لكنها عادت " بخفي حنين " وكلما اثمرت عنه تلك الجولة هو نصيحة عجيبة - بحسب قولها - بأن ننقل مكاننا الى فوهة باب مكتب الترحيل، وهو المكان الذي ترى حليمة انه لا يناسبها ورفاقها باعتباره يفتقد الى " الظل " الذي يوفره جسر الستين . يفترشون الكراتين وعلى مقربة من حليمة ومن حولها جلست عشرات النسوة، يبحلقن في السيارات المارة تارة، ويصوبن عيونهن نحونا - زميلي المصور وانا - فيما بعضهن رحن يغطن في نوم عميق وهن متكورات، ومنهن من اتخذت من ارجل الاخريات متكئاً أو " مخدة نوم " ولا يفصل اجساد بعضهن عن طبقة الاسفلت سوى كراتين تم تحويلها الى مفارش نوم . براءة الصغار وفي عمق المشهد كان بعض الصبية الصغار يتسلق جسد امه تارة وابيه تارة اخرى، وراح احد الآباء يدرب بنته ذات العام والنصف تقريباً على المشي بجوار الحشود الجاثمة، وهو يمسك بكلتا يديها في مشوار خطوات صغيرة اراد بها الاب من جانب آخر ان تكون لحظة استجداء للسعادة في عالم الطفولة، وسط اجواء محبطة، لا يعرف كيف ستنفرج . . وبقيت تلك الطفلة واقرانها هم الوحيدون الذين لا يعرفون بالضبط ماذا يدور حولهم !!