نجحت الثورة السلمية في كل من مصر وتونس، فقد سقط رأس النظام، وسقط الحزب الحاكم، ولاحق القضاء رموز النظام، وتمت الانتخابات البرلمانية، ومع ذلك تبدو مطالب الثورة الشعبية غير مستكملة ببقاء بعض القوانين والممارسات وبقاء بعض المنتمين إلى النظام السابق، أو الموالين له في مواقع إدارية أو تعليمية. كما أن المسار نحو تحقيق الهدف المحوري، وهو استكمال تأسيس نهج ديمقراطي حقيقي قائم على نظام مؤسسي راسخ، ما زال محفوفاً بالصعاب. ويبدو شباب الثورة الشعبية عموماً أكثر حماسة واندفاعاً نحو الغايات التي ثاروا من أجلها، وربما يشعرون بقدر من الإحباط إزاء بطء الخطى نحو تلك الغايات. ربما يبرر البعض هذا البطء ويرى أن الشباب متعلقون بالأماني وهي مشروعة، ولكنهم بعيدون عن الواقع، وأن الذين يتولون إدارة الأمور في هذه المرحلة، وهي مرحلة حرجة، يواجهون عقبات وصعوبات وتحديات، بعضها محلي وبعضها الآخر إقليمي ودولي، وأن هناك حقائق على أرض الواقع يجب أخذها في الاعتبار مع الاحتفاظ بنبل الهدف الذي يظل غاية يجب السعي إليها، وبذل الجهد كله في سبيل ذلك، وهو تأسيس النهج الديمقراطي الحقيقي بناء على أسس راسخة ووضع مؤسسي راسخ. وقد حققت الأحزاب الإسلامية تفوقاً ملحوظاً في الانتخابات بحكم أنها الأكثر تنظيماً، وبحكم أنها حتى لو التزمت بمقتضيات القانون الذي يحظر استخدام الدين في السياسة، فإن المضمون الديني يظل متجذراً، ويجد تجذره في المجتمع بصفة عامة. والالتزام بالنهج الديمقراطي الحقيقي، يقتضي الالتزام بإفرازاته، والقبول بنتائجه، مع أن الخشية من صعود القوى الإسلامية لها ما يبررها في ضوء تجارب سابقة، أو تجارب ماثلة في مواقع أخرى، وفي ضوء الاحتكاكات الطائفية التي تفاقم من هذه الخشية. والخشية على الثورة السلمية الناجحة في كل من مصر وتونس لها ما يبررها. فالتحديات كثيرة والعقبات كبيرة، وهي ليست تحديات وعقبات محلية فحسب، وإنما إقليمية ودولية أيضاً. ومعروف أن هناك أطرافاً إقليمية ودولية تحاول تقويض الثورة الشعبية أو تغيير مسارها أو اختطافها لتحقيق أهداف ومكاسب ومصالح خاصة. والمسار الديمقراطي الحقيقي هو مسار صعب، بصرف النظر عن التحديات الإقليمية والدولية، ويتطلب ترابطاً مجتمعياً قوياً، ووعياً مجتمعياً قوياً بمتطلبات الحقبة الراهنة، والصمود في وجه كل الذين يتربصون بالثورة الشعبية في الداخل أو في الخارج. وأي احتكاك طائفي له تداعياته الكبيرة، وهو في حد ذاته يمثل شرخاً يضعف الترابط المجتمعي الذي جسدته الثورة الشعبية، ووحدت مختلف التوجهات السياسية والاجتماعية والثقافية والطائفية والمذهبية. والقوى الخارجية لها أجندتها، وتملك وسائل ضغط، قد تستخدمها سعياً للحفاظ على مصالحها. ومن بين هذه الوسائل مؤسسات الإقراض العالمية التي قد تفرض من خلالها تلك القوى الخارجية، شروطاً في أي مسعى للحصول على قرض. وبديهي أن كلاً من مصر وتونس في حاجة إلى قروض أو عون مالي لتثبيت الوضع الاقتصادي أو إعادته إلى وضعه الطبيعي بعد شهور من الركود النسبي، قبل الانطلاق إلى تنمية حقيقية شاملة وواعدة. ومعروف أصلاً أن الوضع الاقتصادي قبل الثورة الشعبية كان متردياً في غياب التنمية الحقيقية الشاملة وغلبة الاستبداد والفساد. إن الخشية على الثورات السلمية الناجحة في مصر وتونس هي خشية موضوعية وحقيقية ومبررة. ومنذ الابتهاج المبدئي بسقوط النظام وأركانه، بدأت لحظة الخشية والترقب والخوف على الثورة الشعبية. ومن المعروف أن تحديات داخلية وخارجية تواجه الثورات الشعبية السلمية في كل من تونس ومصر. والطريق إلى تحقيق الهدف المحوري، وهو إرساء وترسيخ النهج الديمقراطي الحقيقي، طريق محفوف بالصعاب والعقبات، وبالتقلبات والتذبذبات في الوقت الذي تراقب فيه القوى الإقليمية والدولية هذا الحراك السياسي وترصد مخرجاته وتوجهاته، وتضع حساباتها وفق ما تمليه عليها مصالحها. ولعلّ ما شهدته الساحة المصرية من مواجهات بين الجيش ومتظاهرين وسقوط ضحايا مدنيين، يثير قدراً من القلق. وإذا كانت البداية ناجحة فإنه لا يمكن الركون إلى هذا النجاح، وإنما البناء عليه وصولاً إلى الهدف النهائي. وتبقى الإرادة الشعبية الواعية هي المرتكز المحوري الذي يعتمد عليه في تأسيس النهج الديمقراطي الحقيقي، وفي مواجهة التحديات الداخلية والخارجية. وهذه الإرادة الشعبية هي أهم مخرجات الثورة الشعبية السلمية، وهي جذوة الحراك السياسي، وبوصلته نحو الأهداف الحقيقية، ومواجهة تحديات الداخل والخارج، وهي الحكم بين أطراف الحراك السياسي، وصاحبة القرار في تحديد المسار. وإذا كانت كل من تونس ومصر قد شهدت عرساً ديمقراطياً، فإن ذلك لا يعني استكمال النهج الديمقراطي الحقيقي واكتمال المسار الديمقراطي وبلوغ غاياته.