"الإرادة هي إرادة الحياة التي تعبر عن نفسها كاندفاع أعمى لا عاقل نحو الحياة"- أرثور شوبنهاور- إن الرغبة في الثورة هي التي جعلت الشعب الموحد يذيب العصر الجليدي ويقضي على المشاعر السلبية والقوى الارتكاسية ويشعر بالحاجة الماسة إلى حسم الأمور لصالحه والتسلح بالنضج وإرادة الحياة والإحساس بنشوة الانتصار على الظلم وإطلاق مملكة الخيال للحلم وتحرير القوى الفاعلة من سجن القمع. والحق أن الشعب لم يرغب في الثورة لأنه أوجد لها العلل الكافية بطريقة جنينية وحاذقة وصبورة وإنما هو أوجد لها الأسباب الموضوعية لأنه رغب فيها وحلم بها وحولها من عالم الممكن إلى عالم الوجوب. إن اندفاع الشعب نحو الثورة هو اندفاع لا واع وحماسي نحو الحياة غير مبال بالموت وما يتعرض له من أذى، وإن وهجومه على سجانيه وظالميه هو هجوم تصاعدي غير مكترث بالأهوال والعواقب والمحن. تمر الحقائق حسب فيلسوف الإرادة والحياة بثلاث مراحل: الأولى أن تتعرض للسخرية، والثانية أن تقاوم بعنف، أما الثالثة فأن يتم اعتبارها من المسلمات. وحقيقة الثورة التونسية هي من هذا القبيل، فقد سخر منها البعض في البداية واعتبرها مجرد تمرد أو انتفاضة وأن النظام القديم سيتمكن من تنظيم صفوفه والالتفاف عليها، وحاول البعض الآخر بعد ذلك مقاومتها بكل ما أوتي من حيلة ومكر وعنف رمزي ومادي ومحو آثارها والسطو على ثمارها والركوب على مسارها وتحويل وجهتها لحساباته الخاصة. لكن في نهاية المطاف الفريق الثالث، وهو الشعب، قد اعتبرها من المسلمات وصارت في عداد البديهيات ولا يمكن التشكيك في ملابساتها وظروفها ودواعيها ورهاناتها ومطالبها وقد استبطنها في مخياله الاجتماعي وذاكرته الجماعية، وهاهو يحتفل بمناسبة مرور عام على تفجرها ويستعيد أحداثها لحظة بلحظة ويوم بيوم ويمر على كل مدينة انتفضت وكل شارع اهتز وكل معركة حصلت بالثناء والإعجاب وينظر إلى كل شهيد ارتفعت روحه إلى السماء وكل ثائر جرح بالدعاء والتمجيد والشفاء. إن سر انفجار الثورة في تونس ونجاحها في إزاحة الدكتاتور هو من وجهة نظر الناشط خير الدين حسيب ناتج عن توفر أربعة شروط وهي: 1 كسر حاجز الخوف، 2 وحدة الإرادة الشعبية، 3 السلمية والابتعاد عن العنف الذي يوفر للنظام الأقدر على العنف تبريراً لاستعماله، 4 تأييد الجيش أو وقوفه على الحياد. في الواقع يمكن إضافة معطى خامس إلى هذه الشروط الأربعة وهو تشكل حس مشترك كون حجما اجتماعيا هائلا مارس نوعا من الضغط السياسي على النظام رافعا سقف المطالب المستحقة إلى أقصى نقطة وهي المجاهرة بتمسكه برحيل الجهاز الحاكم برمته ومناداته بنظام برلماني بديلا عن الرئاسوية. لقد شخص الشعب عن طريق الحس المشترك الذي هو إحساس بالوحدة بين الناس والمصير المشترك مجموعة من الأعراض في النظام الشمولي استنتج منها شيخوخته وقابليته للسقوط، ولقد استقبل إشارات غذت لديه الأمل في تحقيق الهدف من الأمثل لكل مدنية لا اجتماعية تحكم العلاقات السياسية غير المتنورة وهو الثورة، ولقد قام بسد الطريق أمام إمكانية العودة إلى السلسلة المقيدة والانتظارات من الوعود الزائفة.