يستطيع أولئك الذين قالوا قبل أكثر من قرنين إن العالم لا يمكنه الوقوف على قدم واحدة، وإن عالم القطبية الواحدة لن يعمّر طويلاً، أن يتأكدوا من صحّة ما ذهبوا إليه وهم يشاهدون الدب الروسي ينفض الثلج عن جسده ويتحرّك في كل اتجاه. من راقب مواقف موسكو ما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، لم يكن ملاماً، إذ وضع يده على صدره قلقاً على مصير العالم . حتى قبل الانهيار الكارثي للمنظومة الاشتراكية، هناك من قال إنه إذا كان العالم مقسوماً بين الرأسمالية والاشتراكية «آنذاك»، فإنه سينقسم بين الإنسانية والبربرية في حال انتصرت أمريكا في الحرب الباردة. لكن المتفائلين والواثقين بخط التاريخ بدّدوا القلق واليأس بطمأنة الحريصين على مصير كوكب الأرض، بأن عالم القطبية الواحدة حالة مؤقّتة. قبل أربع سنوات تقريباً، شهدنا بداية كسر هذه الأحادية عندما ردت موسكو على استفزازات الغرب ومحاولت إزعاجها من الخاصرة القوقازية، وضربت ضربتها السريعة والحاسمة وسط ذهول أمريكا وحلفائها ووقوفهم حائرين أمام ذلك التحرّك العسكري المفاجئ ، ومنذ تلك «الحركشة» الفاشلة، أصبحت روسيا بيت القصيد في أية حسابات تترتب على تفكير الغرب بالتحرّك دولياً. صحيح أن موسكو لم تعد على نفس الهيبة التي كانت عليها عندما كان مجرد ذكر اسم الكرملين يستنفر الدوائر الغربية، لكن الأصح أن روسيا بوتين- ميدفيديف ليست هي ذاتها روسيا بوريس يلتسين. ولم تكد تمضي بضعة أيام على إعلان موسكو أنها قررت نصب رادار دفاعي من طراز متطور جداً في سيبيريا في إطار نظام الإنذار المبكر، حتى جاء تهديد بوتين أشد تعبيراً عن وضع يشبه الحرب الباردة عندما قال إن روسيا سترد على أي عمل «أحادي الجانب» يقوم به الغرب، وهي أوضح إشارة لرفضها التدخّل الغربي المتجاهل لمصالح موسكو في غير مكان في العالم. هذا التهديد جاء تتويجاً لسلسلة مواقف روسية واضحة وقاطعة في رفضها مثل هذا التدخّل، وبعد بضعة أشهر على استخدام موسكو، ومعها الصين، حق النقض «الفيتو» لإحباط قرار ضد دمشق رغم أنه لم يتضمن أية إشارة إلى تدخّل عسكري أو حتى فرض عقوبات. هذا يعني أن روسيا قررت قطع الطريق على محاولات أمريكا والغرب انتزاع أي صيغة لقرار من المجلس كي تفسّره على هواها وتتدخل عسكرياً. وعلى نحو أوسع كان بوتين أكثر وضوحاً وحسماً عندما وعد الروس بأنه سيكافح كل محاولات الغربيين لفرض إرادتهم على موسكو، وقد اختزل المعادلة الدولية الجديدة بكلمات قليلة دالّة مفادها أن قواعد لعبة السياسة والاقتصاد الدولية لا يمكن أن تتخذ على حساب روسيا أو بالالتفاف على مصالحها. يمكن القول بثقة إن قواعد اللعبة الدولية قد تغيّرت في السنوات الأربع الأخيرة، وهي دخلت الآن مرحلة الفرز والتبلور على أساس عودة القطبية المتعددة، بوجود قوى أخرى صاعدة مثل الصين والبرازيل والهند. لا يعني هذا الابتهاج بعودة موسكو وتهديداتها شغفاً بمواجهة دولية أو باستئناف الحرب الباردة حباً بتسخين العلاقات الدولية وتهديد حياة البشر بحرب عالمية ثالثة، لكن إذا كان عالم القطبية الواحدة سيواصل تحويل شعوب العالم إلى كيس ملاكمة لأمريكا، فإن عودة القطبية المتعدّدة هي الملاذ الإجباري للشعوب، فإما أن تكون السيادة والكرامة الوطنية محترمة، أو فليكن ما يكون.