رفعت الولاياتالمتحدة قبل غزو العراق وبعده شعار "حرية العراق"، ودفعت لتحقيق هذا الشعار بمائة وستين ألف عسكري في الموجة الأولى التي وطأت أولى قوافلها الأراضي العراقية فجر التاسع عشر من مارس عام 2003، لتكمل خطواتها بدخول العاصمة العراقية صباح التاسع من ابريل من العام نفسه. ومنذ ذلك اليوم دخل العراق في حقبة زخرت بالأحداث والقتل والدماء، والدخان الأسود يلف هذا البلد من كل جانب، في حين واصل الأمريكيون صراخهم بشعارهم الذي أطلقوه "عملية حرية العراق"، وسبق ذلك أن أطلق الأمريكيون عمليتين عسكريتين ضد هذا البلد. حرية العراق بدأت بقوة السلاح الأمريكي، ولم يلمس الأمريكيون الذين رفعوا هذا الشعار أي ملمس للحرية، حتى اضطروا إلى اختيار عنوان ينطوي على أكثر من دلالة هو "الفجر الجديد"، ولم أسمع تفسيرا لهذا الاختيار، فإذا كان القصد منه نفض غبار عقدين من الحرب على العراق، ومحاولة التخلص من الركام الأسود الذي حصده الأمريكيون في هذا البلد، فقد يكون هذا الفجرمناسبا، لكن يحتاج إلى أكثر من مراجعة أمريكية، على أن يكون درس العراق في حدود النتائج الخطيرة التي برزت داخل الولاياتالمتحدة وخارجها. وبالنسبة للداخل الأمريكي فإن الفجر الذي يحاولون رسم ملامحه العامة قد خرج من أتون ليل العراق الحالك الظلمة، ليل زخر بالصواعق والبرق والرعد دون أن تكون هناك أية غيمة يهطل منها مطر، لهذا فإن المراجعات الأمريكية يجب أن تنطلق أولا وقبل كل شيء من الاعتراف بالحقيقة المرة، وأن تقول أمريكا على لسان مفكريها وسياسييها وناسها، إن الفجر الجديد يعني المحافظة على أرواح جنودهم بعد إخراجهم من العراق، وإنه لا يعني أن فتحا جديدا في تاريخ أمريكا قد تم تسجيله، فقبل بزوغ هذا الفجرالجديد سقط عشرات الآلاف من جنود أمريكا قتلى على أرض العراق، وتقول الإحصائيات إن أكثر من ربع مليون معوق ومخبول أمريكي عادوا إلى الولاياتالمتحدة من العراق خلال السنوات الماضية، وإن شوارع العراق وقراه ومدنه تحولت إلى متاحف لدمار الدبابات وناقلات الأشخاص، وذاكرة العراقيين مؤثثة بمناظر هائلة توثق لهزيمة أمريكا في هذا البلد، فالطائرات المروحية العملاقة أسقطها العراقيون ومعها طائرات مقاتلة وطائرات الحراس الأمنيين، ولم تسلم من العراقيين حتى الطائرات المسيرة بدون طيار التي تحلق على ارتفاعات شاهقة، فقد تسلل إلى منظومتها الالكترونية المعقدة العقل العراقي ورموها في الأرض، وأطفال العراق يقهقهون وهم يرون منظر القوة الأمريكية التي لا تقهر وقد داستها أحذية العراقيين. وقبل الفجر الجديد عاش الأمريكيون في جميع قواعدهم بالعراق كوابيس لا مثيل لها، وهذا ما تتحدث به رسائل الجنود إلى عوائلهم، فالخوف يلاحقهم حتى أثناء النوم، ولا يعرفون متى يلتحقون بمن سبقوهم من زملائهم الذين اصطادتهم قذائف ونيران أسلحة العراقيين في الطرقات وداخل قواعدهم المحصنة، كما يتحدث عن ذلك كتاب وعسكريون يوثقون لأيام الليل المرعب الذي سبق "الفجر الجديد". بين حرية العراق والفجر الجديد سنوات عجاف عاشها العراق، وها هو ينفض غبار تلك السنين العجاف، أما أمريكا فإنها بدأت خطوات الهروب من الكابوس العراقي الذي عاشه الأمريكيون في العراق وعوائلهم في داخل أمريكا، كما شغل طواقم الدفاع والمخابرات الأمريكية وكبار المسؤولين في البيت الأبيض، ومن أهم المراجعات الأمريكية الاستفادة من أقسى دروس العراق التي تقول للقادة الأمريكيين، لا تفكروا بعد الآن بتصدير "الحرية لدول العالم كما حصل في العراق" لأنكم ستحتاجون إلى أكثر من فجر وصبح جديد، وقد لا تحصلون على مثل هذا الفجر الزاخر بالخسائر المعنوية والبشرية والاقتصادية.