هناك لغط كثير حول إيديولوجية نظام الحكم وانتمائه السياسي الذي ستأتي به انتخابات ما بعد ثورات وحراكات الربيع العربي في هذا القطر أو ذاك، لكن دعنا نطرح السؤال التالي: هل أن مشكلة الحكم الأساسية في بلاد العرب تكمن في مسألة الاختيار بين حكم الليبراليين أم اليساريِّين أم الإسلامٍّيين؟ إذ إن التجربة الإنسانية عبر التاريخ تظهر أن الشعارات والبرامج التي يطرحها هذا الحزب أو تعد بتنفيذها تلك الجهة، بالرّغم من أهميتها، لا تكفي لضمان قيام حكم رشيد يرضى عنه الناس. تحتاج تلك الشعارات والبرامج إلى أساس قيمي أخلاقي تنطلق منه من أجل ضمان تطبيق تلك الشعارات والبرامج في الواقع ومن أجل تجنُّب أن تبنى وعود فارغة أو أكاذيب علاقات عامة سياسية في فترات الانتخابات. فهتلر طرح شعارات قومية ليبرالية وبرامج حداثية في الصناعة والعلم والتكنولوجيا ولكنه كان مستبداً فاشياً عنصرياً. وستالين أيضاً طرح شعارات ماركسية وبرامج تغييرات اقتصادية وعلمية ولكنه كان دموياً قاسياً بلا ضمير ولا إحساس بعذابات الآخرين. وكانت النتيجة أن تسبّب الاثنان في موت الملايين من البشر الأبرياء. ذلك أن برامجها وشعاراتها، سواء باسم الحزب النازي في ألمانيا والحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي السابق، لم تكن موجَّهة ومقيِّدة بالأساس القيمي الأخلاقي الذي ينبغي أن يقوم عليه كل نظام حكم. إذن، الحكم على أيّ نظام حكم ستأتي به انتخابات ما بعد ثورات وحراكات الربيع العربي يجب أن يتجاوز المقارنات والتفضيلات فيما بين القوميين أو اليساريين أو الليبراليين أو الإسلاميين ليطرح السؤال المفصلي: ما هي القيمة الأخلاقية الكبرى التي ستهيمن على روح ومنهجية وتنفيذ الشعارات والبرامج التي طرحها هذا الحزب أو ذاك إبَّان الانتخابات؟ هذه القيمة الأخلاقية اختلف من حولها منظّرو علم السياسة عبر القرون، ولكن على الأخصّ خلال القرن المنصرم. وإلى يومنا هذا فإنَّ نقاشات كثيرة وكتبا عديدة تطرح حول هذا الموضوع الشَّائك، خصوصاً بعد أن تبيَّن مقدار الأخطاء ونقاط الضّعف والخطايا المتواجدة في مختلف أشكال الأنظمة الديمقراطية في الغرب الرأسمالي. إذ لا يكفي أن يوجد النظام الديمقراطي ليقوم حكم رشيد، فحتى النظام الديمقراطي يجب أن تحكمه قيمة أخلاقية مفصلية حتى يتجنَّب في الممارسة ارتكاب الكثير من الخطايا المظلمة كالسَّماح بوجود جيوب فقر مفجعة أو هيمنة أصحاب المال والجاه على حياة المجتمعات أو وجود انحيازات ضدَّ المرأة أو تقديم تعليم سيّئ للفقراء وحسن للأغنياء.. إلخ، مما هو موجود في مجتمعات الغرب الديمقراطي بصورة يعرفها القاصي والدَّاني وتهدِّد تلك المجتمعات بالحروب الأهلية والصّراعات الفئوية والطبقيَّة. من يعرفون بالنفعيين يعتقدون بأن هذه القيمة الأخلاقية يجب أن تكون المنفعة. فما يعتقد نظام الحكم أنه سيكون نافعاً ولا يضرُّ أحداً فهو الذي يجب أن يحكم الشعارات والبرامج. الليبراليون بصورة عامة يعتقدون تساوي الفرص وحريَّة الاختيار هي القيمة المطلوبة. فما دام الناس أحراراً في أن يختاروا لأنفسهم ولنمط حياتهم ومادامت الفرص مفتوحة أمامهم فانَّ نظام الحكم معقول. في أرض العرب نحتاج أن نناقش هذا الموضوع بجديَّة وعمق . من الضروري أن يعرف الإنسان العربي بأن مجرّد الانتقال إلى نظام ديمقراطي لن يكفي، إذ لا بدَّ من قيمة أخلاقية مهيمنة تحكم تلك الديمقراطية وتجنُّبنا خيبات الأمل التي واجهت إنسان الغرب على سبيل المثال. لعلَّنا ونحن تفتِّش عن القيمة الأخلاقية التي تأخذ دروساً من تاريخنا وتستعين بثقافتنا الإسلامية المهيمنة على واقع الإنسان العربي نستفيد من توجّه عالمي، بما فيه الغرب الديمقراطي، على اعتبار أن القيمة الأخلاقية التي يجب أن تحكم أفكار ومشاريع ومنهجيات كل نظام حكم هي قيمة العدالة والإنصاف. هذه الحساسيّة للعدالة لن تكون بالطبع، عقيدياً غريبة على العرب الذين حملوا رسالة الإسلام المعروف بدين الحق والقسط والميزان. المفروض أن العكس هو الصحيح، إذ من المفروض أن تكون مساهمة العرب، من منطلق حساسية الإسلام للقسط والميزان والحق، في النقاشات الدائرة حول قيمة العدالة المطروحة بقوة في الأدبيات السياسية العالمية المعاصرة، أن تكون مساهمتهم كبيرة وغنيَّة. وهذا موضوع سنحاول بتواضع أن نطرقه في المستقبل ونكتفي اليوم بالتوجًّه لمفكري الأمة العربية، خصوصاً في حقل السياسة، بأن يولوا هذا الموضوع، موضوع القيمة الأخلاقية التي يجب أن تحكم وتهيمن على نظام الحكم العربي في كل الوطن العربي، يولوه أهمية كبرى.