خروج القوات الأمريكية من العراق مع بداية عام 2012، لا يمثل نهاية للحرب والصراعات الداخلية، ولا يعني أبدا أن العراق أصبح دولة حرة ومستقلة بكل معنى الكلمة، ولكن بلا شك يشكل هذا الخروج انتصارا تاريخيا كبيرا لقوى المقاومة العراقية التي أجبرت أمريكا على اتخاذ قرار الهروب من المستنقع العراقي، دون تحقيق الأهداف التي رسمتها لنفسها من هذه الحرب التي افتعلتها بحجة ما سمته امتلاك العراق "سلاح الإبادة الجماعية". فقد جاء هذا الانسحاب في أعقاب الخسائر الجسدية والمالية التي لحقت بجنود الاحتلال وبالاقتصاد الأمريكي، على أيدي المقاومة العراقية. فحسب آخر تقرير لوزارة الدفاع الأمريكية، وصل عدد القتلى من الجنود الأمريكيين حتى يوم 30/ 11/ 2011 إلى 4485 قتيلا، وعدد الجرحى حتى يوم 29/ 11/ 2011 وصل إلى 31921 جريحا وهؤلاء هم الذين خسروا أعضاء من أجسادهم وأصبحوا معوقين، كما أن هذا الرقم لا يشمل الذين يعانون من حالات نفسية وأمراض أخرى، ولا الذين كانت جراحهم طفيفة نسبيا. أما تكاليف هذه الحرب حتى يوم 30/ 11/ 2011 فقد بلغت، حسب نفس التقرير، 805 مليار دولار. ولكن الأهم من كل ذلك، هو أن المقاومة العراقية ساهمت في إفشال كل المخططات التي وضعتها أمريكا إقليميا لهذه الحرب، ويمكن اعتبارها فصلا مأساويا في تاريخ أمريكا؛ تماما كما فعلت المقاومة اللبنانية، حيث حدت من مقدرة إسرائيل الاعتداء على السيادة اللبنانية وبالتالي لعبت دورا في إفشال المخطط الأمريكي/ الإسرائيلي في منطقة الشرق الأوسط. فبعد تسع سنوات من الاحتلال، فشل هذا الاحتلال في جعل العراق دولة آمنة، وفشل في تحويلها إلى دولة ديمقراطية "تحتذي بها دول المنطقة"، وفشل من خلال هذه الحرب في تطبيق ما سمته أمريكا بمخطط "الشرق الأوسط الجديد". كما فشل في جعل العراق دولة اقتصادية مستقلة، رغم أنها تعتبر رابع أكبر دولة نفطية في العالم، ومع ذلك لا تزال تعاني من نقص في الكهرباء ولا تستطيع أن تؤمن الخدمات الاجتماعية لسكانها، والبطالة لا تزال مرتفعة فيها. وينسحب الجيش الأمريكي مخلفا عراقا منقسما تتآكله الصراعات الطائفية، ومكبلا سياسيا، ومحتلا اقتصاديا، فقد يواجه شعب العراق 16 ألف دبلوماسي ورجل أعمال أمريكي يمشطون البلاد طولا وعرضا للسيطرة على مقدراته الاقتصادية، وبالتالي تقيده بقروض اقتصادية قد يصعب التخلص منها خلال عقود كثيرة. ولإدارة كل هذه الشؤون ستترك أمريكا خلفها أكبر سفارة لها في العالم، والتي ستضم مئات العاملين، من دبلوماسيين واختصاصيين مدنيين وعسكريين في كل المجالات، وقوة أمنية كبيرة، بالإضافة إلى النشاطات المخابراتية التي ستقوم برصد ما يدور في المنطقة. وقد بدأت الصراعات الداخلية حتى قبل خروج آخر جندي أمريكي من أرض الرافدين تجسد في تجديد الصراع بين الطائفتين الشيعية والسنية. فقد أصدر مجلس القضاء الأعلى في العراق "19/ 12/ 2011" مذكرة توقيف بحق طارق الهاشمي نائب الرئيس العراقي، والذي ينتمي إلى الطائفة السنية، بحجة مشاركته في تدبير هجمات إرهابية!! وقد أدى ذلك إلى أن يقوم إئتلاف "العراقية" "وهو سُني" بمقاطعة جلسات الحكومة وجلسات البرلمان أيضا. وفي نفس الوقت انتقد رئيس الجمهورية طلباني "وهو كردي" عدم التشاور معه بشأن إصدار مذكرة القبض على نائبه الهاشمي. . ونقلت وكالة رويتيرز للأنباء "20/ 12/ 2011" عن زعيم القائمة العراقية اياد علاوي قوله: "التطورات الأخيرة قضت على الديمقراطية في العراق... لقد اغتصبت الديمقراطية في العراق على مرأى ومسمع من الجميع وتم تقويضها تماما، ونخشى أن يؤدي ذلك إلى تأجيج الصراع الطائفي ويؤدي إلى مزيد من إراقة الدماء". هذا ما خلفه الاحتلال في العراق. وقد تحدثت عنه صحيفة "واشنطن بوست" "19/ 12/ 2011" في مقال على صفحتها الأولى حيث قالت بأن الصراعات السياسية والطائفية تتعمق في العراق مع خروج القوات الأمريكية منها.ولكن هناك إيجابيات كثيرة استفادت، وستستمر في الاستفادة منها، شعوب المنطقة، وشعوب العالم التي تتطلع إلى الحرية والاستقلال؛ فقد رسخ الاحتلال معالم المقاومة الشعبية وكرسه خيارا ونهجا، بل عزز أيضا ثقافة المقاومة بكل أبعادها، وأكد أن التخلص من الاحتلال لا يأتي عن طريق المفاوضات، إلا إذا كانت تدعمه مقاومة على أرض الواقع، بغض النظر عن جبروت المحتل وشراسته. ويمكن احتلال العراق وهزيمة المحتلين أن يكون عبرة لبقية الشعوب العربية، حيث برهنت أمريكا أنها لا تعمل لصالح الشعوب، وأن ما تتطلع إليه هو مصالحها وفرض نفوذها، وتنفيذ مخططات إسرائيلية . بمعنى آخر فإن الذين يعتقدون أن صداقة أمريكا مبنية على مصالح الشعوب هم مخطئون في ذلك. إن مصالح أمريكا تتطابق مع مصالح قادة دكتاتوريين لا تهمهم سوى مصالحهم هم، وتتطابق مع مصالح إسرائيل التي تتطلع لفرض هيمنتها على المنطقة. وبلا شك إن أعداء العراق وأعداء الأمة العربية والقومية العربية سيعملون جميعا على تطوير التعصب الطائفي وتعميقه وتغذيته بكل الوسائل المتاحة، حتى لا يتعافى العراق ويعود ليلعب دورا مهما في حياة المنطقة وحياة الأمة العربية.